النفيسي وعبدالناصر والعمالة للأمريكان

 سمعت بهذا الكتاب "لعبة الأمم"، لأول مرة ربما، من الدكتور عبدالله النفيسي، في برنامج "الصندوق الأسود"، في سياق ذكر فيه أن جمال عبدالناصر قد كان "ألعوبة بيد الأمريكان"، ووصفه كذلك بأنه "أكبر أكذوبة في تاريخ مصر الحديث"، مستندا في هذه الادعاءات على هذا الكتاب، بشكل أساسي، وناصحا المشاهدين بقراءته.

أثار ذلك اهتمامي وفضولي إلى حد كبير، ودفعني إلى البحث عن الكتاب، حتى وجدته واقتنيته.

وأقول، بعد إتمامي قراءة هذا الكتاب، بأن الدكتور عبدالله النفيسي قد أخطأ خطأً كبيرًا في تصريحه هذا، ضد جمال عبدالناصر، وظلم هذا الأخير ظلما كثيرا! ولا أعلم إن كان مَرَدّ ذلك إلى إساءة قراءة الدكتور النفيسي لهذا الكتاب، أو إلى دافع شخصي، إذ هو يكره جمال عبدالناصر شخصيا، كرها شديدا، ويصرح بذلك دون خجل!

ومن جانب آخر، فقد وجدت أن كاتب هذا الكتاب نفسه، ضابط المخابرات المركزية الأميركية، مايلز كوبلاند، هو الآخر يعاني من عقدة كبيرة تُسمى "عقدة جمال عبدالناصر"! وعلى غرار مسلسل “Suits"، وشخصية "لويس ليت"، المتيّم والهائم (عشقًا وكرهًا)، في الوقت نفسه، ب"هارفي سبيكتر"، كذلك بالضبط وجدت مايلز كوبلاند تجاه عبدالناصر! كان واضحا، من كل سطر من سطور الكتاب، والذي بالكاد خلت صفحة من صفحاته من ذكر عبدالناصر، أن مايلز كوبلاند قد كان مفتونا بعبدالناصر، وهو نفسه يعترف بذلك في أكثر من موضع في الكتاب. ولكنه، في الوقت نفسه، يميل إلى ذم عبدالناصر وانتقاصه في كثير من الأحيان أيضا، بل وحتى إلى الكذب والافتراء عليه!

أكثر ما يثير الاستغراب في الكتاب، إلى جانب سلبيات كثيرة سآتي على ذكرها لاحقا، هو التناقض الكبير في التصريحات التي جاءت فيه حول جمال عبدالناصر! ففي بعض الأحيان، نجده يقول بأن عبدالناصر قد كان "مجرد ممثل في مسرحية أخرجها الأمريكان"، وربما كان هذا التصريح، الذي تكرر لأكثر من مرة في الكتاب، هو الذي دفع الدكتور النفيسي -خطأً أو عمدًا ممتزجًا بسوء نية- إلى الاعتقاد والتصريح علنًا بأن جمال عبدالناصر قد كان "ألعوبة بيد الأمريكان"! ولكن مايلز كوبلاند نفسه، حين يسرد الأحداث التاريخية والسياسية المهمة، يذكر ويظهر، وفي مواضع عديدة جدا من الكتاب، كيف أن عبدالناصر قد كان زعيما مستقلا، لم يقدر على التحكم فيه الأمريكان ولا البريطانيون، مهما حاولوا! وذكر وأظهر أيضا كيف أنه تمرد عليهم وصدمهم في مرات عديدة، خصوصا عندما كان يلعب على الحبلين، ويلوّح للأمريكان، كلما تطاولوا عليه وعلى بلاده مصر، بالعصا السوفييتية التي لن يتوانى عن اللجوء إليها، إذا فكرت الولايات المتحدة بأن تقلل من قدره هو وبلاده!

نجده، على سبيل المثال -وليركز القارئ الكريم على العبارات الموضوعة بين قوسين من قبلي-، في الصفحة ١٩٩ من الكتاب وهو يقول: "وإذا كنا لم نشارك ناصر فعلا في انقلابه، وفي توطيد سلطته وفي بناء وسائل القمع فى بلاده، فذلك يعود إلى (رفض ناصر لمساعدتنا له)، فيما عدا بعض النصائح التي كانت تهم الطرفين معا". وفي الصفحة ٢٣١ من الكتاب يقول: "وكما أخبر ناصر كلا من السفير البريطاني والسفير الأمريكي وروزفلت ومن أرسلهم روزفلت من الاختصاصيين إلى القاهرة، وأخبرني أيضا، من جملة الذين أخبرهم من اصدقائه الغربيين الذين تعاملوا معه بمسائل إدارية واقتصادية ومالية، إن هدفه الرئيسي، هو أن يتسلل إلى مركز يتيح له أن (يقرر المسائل الفردية في السياسة الدولية على أسس موضوعية، بغض النظر عن كونها تلائم مصالح دولة كبرى معينة أم لا)، ولحين قيام روسيا بشن هجومها على الشرق الأوسط، فإن (ناصر كان يرغب بأن يتمتع بحرية كاملة فى معارضة الدول الكبرى أو مخالفتها وفي كيفية إنجاز ذلك، تاركا إيانا نضرب أخماسا بأسداس بدون أن نعرف ما يريد حتى اللحظة الأخيرة). ومن الطبيعي أن يكون من مخططة أن يفهم الغرب والسوفييت هذا، ويقبلوا به، ويعاملوه على أساسه، بل ويلاطفوه ويداهنوه"!

يعترف مايلز كوبلاند، كما يرى القارئ الكريم، أن عبدالناصر قد كان يترك الغرب بأكمله ليضرب "أخماسا في أسداس" حتى اللحظة الأخيرة، ثم يأتي النفيسي ويقول بأن عبدالناصر قد كان ألعوبة بيد الأمريكان!

وفي الصفحة ٢٦٧، يقول كوبلاند: "إلا أن ناصرا قد أفلح في إقناع الأمريكيين والسوفييت بأن يستشيروه في شؤون كثير من الدول الأفريقية والآسيوية مثل فيتنام وأندونيسيا وسوريا، بل -إلى حد ما- حتى إسرائيل نفسها"! فهل ذلك دور عمالة وتبعية مطلقة؟ ثم يقول كوبلاند أيضا، في الصفحة نفسها، بأن أحد الدبلوماسيين الأميركيين قال بأن ناصر "من العوامل التي علينا أن نحسب لها حسابا". 

هذه مجرد أمثلة على تصريحات كوبلاند في الكتاب، التي تدل على استقلالية عبدالناصر، وعلى أنه لم يكن تابعا للأمريكان ولا عميلا لهم ولا ألعوبة بأيديهم، كما ادعى ذلك الدكتور النفيسي!

أما كوبلاند، فرغم كل تناقضاته، في كتابه هذا، والذي حاول أن يظهر فيه عبدالناصر، في بعض المواضع على الأقل، على أنه "مجرد ممثل في مسرحية من إخراج أميركي"، ومن ذلك التصريح التافه المضحك ص٣٤٦، حيث قال: "وقلقت حكومتنا عليه (أي الحكومة الأميركية) قلق الحبيب على الحبيب، وشغل بال الأصدقاء، فلم يغمض لهم جفن ولم يهدأ لهم قرار"، فإنه أظهر من خلال سرد الأحداث نفسها أن ناصرا قد كان مستقلا!

بالطبع، وهنا استدراك مهم، لا يعني ذلك أن الأمريكان لم يدعموا ناصرا والضباط الأحرار في ٢٣ يوليو، عندما قاموا بانقلابهم على الملك فاروق، وهذا هو الجزء الصحيح من كلام النفيسي؛ إذ كان الأمريكان فعلا يرمون إلى تحجيم النفوذ البريطاني في المنطقة، وإلى إحلال النفوذ الأميركي محله، وكان طرد الملك فاروق لصالح محمد نجيب وعبدالناصر خطوة في سبيل ذلك. بالطبع، وكما يقول المؤرخ جيمس بار (في مقابلة مع قناة العربي)، اعتقد الأمريكان في البداية أنهم سوف يستطيعون التحكم بعبدالناصر، ولكن هذا الأخير أظهر لاحقا كيف أنه حقا عصيٌّ على أن يُتحكم به، ولا حتى بالمساعدات المالية والعسكرية الأميركية!

وأما عن الكتاب نفسه، وأسلوبه، فقد وجدت أن أسلوبه سيء جدا، بل غاية في السوء! فسرده للأحداث والمجريات والتحليلات السياسية غير متسق مع بعضه أبدا، بحيث لا يدري القارئ، في بعض الأحيان على الأقل، ما الذي يحاول المؤلف إيصاله! وكثيرا ما يكرر بعض التفاصيل! ناهيك عن كثرة الأخطاء الإملائية واللغوية في الكتاب، والتي كانت تتسبب لي، كل ما مررت على إحداها -وهي كثيرة- بسكتة قلبية! الطبعة شديدة الرداءة والسوء، وربما كان للترجمة أيضا يدٌ في تلقيّ السّيء للكتاب، ولكنني وجدت الكتاب سيئا من نواح كثيرة في الواقع، ليست الترجمة أقلها، وليس أقلها أيضا الهوس المرضي الواضح لدى الكاتب بجمال عبدالناصر!

حسين كاظم

١ مارس ٢٠٢٤م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في نزع سلاح حزب الله: الأسباب والعواقب

مراجعة ونقد رواية "البكاؤون" للدكتور عقيل الموسوي

ترامب والحرب العالمية الثالثة المحتملة