ترامب والحرب العالمية الثالثة المحتملة
في العشرين من يناير 2025، يعود ترامب إلى البيت الأبيض من بعد أربعة أعوام
قضاها في التباكي على خسارته الانتخابات الرئاسية السابقة لصالح بايدن، وفي الإرعاد
والإبراق في كل مناسبة وفي كل مكان، وفي السعي المحموم للعودة إلى رئاسة الولايات
المتحدة الأميركية.
أما وقد أصبحت عودته حتميةً بعد
فوزه الحاسم بالانتخابات على منافسته "كمالا هاريس" -التي أمست الورقةَ
المحترقةَ للحزب الديمقراطي-، في مثل هذا الوقت البالغ الحساسية من تاريخ العالم،
ونحن أقرب من أي وقت مضى من "الحرب العالمية الثالثة"، مع صراعات مشتعلة
في شتى أنحاء العالم، وأخرى خامدة تنتظر الانفجار في أية لحظة، فإنه من الجدير بنا
أن نتوقف عند وعوده وسياساته وشخصيته؛ لنحاول أن نستقرئ ما ستؤول إليه الأمور تحت
قيادته، رغم إصراره المستمر على تصوير نفسه وكأنه "يستحيل التنبؤ
بتصرفاته".
v قراءة في سبب
فوز ترامب بالانتخابات:
في حلقة على اليوتيوب بعنوان "هل يقلب ترامب الاقتصاد العالمي"،
يبدأ الخبير الاقتصاديّ "أشرف إبراهيم" هذه الحلقة بقوله: "إنه
الاقتصاد، يا غبي"! وهي عبارةٌ أطلقها مستشار بيل كلينتون (جيمس كارفيل) عندما
كان كلينتون يخوض معركة الانتخابات ضد جورج بوش الأب عام 1992، في إشارة إلى أن
مفتاح الفوز برئاسة البيت الأبيض -وأصوات الناخبين، بطبيعة الحال-، إنما هو يكمن
في الاقتصاد، إلى درجة أن هذه العبارة: "إنه الاقتصاد، يا غبي" قد أصبحت
شعار حملة كلينتون الانتخابية، وعاملًا من العوامل الأساسية التي أدت إلى فوزه بالانتخابات،
وهزيمته جورج بوش الأب.
ويشير "أشرف إبراهيم"
إلى أن دونالد ترامب قد لعب على نفس الوتر في حملته الانتخابية الشرسة ضد كمالا
هاريس، فركّز أكثر ما ركّز على الاقتصاد. ورغم أن الاقتصاد الأميركي يُفترض أن
يكون قد تحسن في ولاية بايدن، إلا أن المواطن الأميركي العادي لا يرى انعكاس ذلك
على حياته المعيشية. وهذا ما جعل ترامب يستغل ذلك ليجتذب الأصوات الأميركية.
ورغم كل ما رأيناه من حراك
نَشِطٍ في الشارع الأميركي على مدى الأشهر القليلة السابقة، احتجاجًا على الدور
الأميركيّ الدّمويّ في الإبادة الجماعية في غزة، وخصوصًا في الجامعات الأميركية
بين طبقات الشباب المتعلّم، إلا أن المُحرِّكَ الأساسيّ الذي يُحرّك الناخبَ
الأميركيّ ويدفعه ناحية مُرشّحٍ دون آخر يبقى هو هو منذ أكثر من ثلاثين عامًا وحتى
الآن: الاقتصاد بالدرجة الأولى! لا السياسة الخارجية، ولا الاعتبارات الأخلاقية، ولا
أي عامل آخر يُحرّك الناخب الأميركي بقدر ما يُحرّكه العامل الاقتصاديّ!
وإلى جانب ذلك كله، لا يجدر بنا
أيضًا إغفال الدور الكبير الذي لعبه اللوبي الصهيوني، والدور الذي لعبه الملياردير
إيلون ماسك، وغيره من رجال ونساء الأعمال والمليارديرات، من أجل إيصال ترامب إلى
رئاسة الولايات المتحدة، عن طريق الدعم المالي والإعلامي الهائلين.
v ترامب بصفته
"الرئيس المناهض للحرب".. هل ذلك صحيح؟
"سوف أسوّي الحرب في أوكرانيا، وسوف أُنهي الفوضى في الشرق الأوسط،
وسوف أمنع شيئا لن يتمكن أحد آخر من فعله. سوف أمنع الحرب العالمية الثالثة، وأنتم
قريبون جدا من الحرب العالمية الثالثة"! هذه هي نوعية الخطاب التي اعتمدها
دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية: أنتم أقرب إلى الحرب العالمية الثالثة من
لمح البصر، وأنا الذي سوف أمنعها: سأنهي الصراع في أوكرانيا، وسأنهي الحرب في
الشرق الأوسط، ولن أبدأ حروبًا كما أنّي لم أبدأ حربًا في ولايتي الأولى.. إلخ.
ولديّ صديقٌ أميركيٌّ كارهٌ
للصهيونية وللصهاينة، ومُحِبٌّ مع ذلك لترامب، كان مُفتتنا بهذه النوعية من الخطاب،
ويصدّقها. وكان يقول: "لا أعتقد بأنه سيتمكن من تحقيق السلام في الشرق الأوسط،
ولكن على الأقل سوف يتمكن من إنهاء الحرب في أوكرانيا وخفض التصعيد مع روسيا. وذلك
من شأنه أن يقلل من احتمالات الحرب العالمية الثالثة ويمهّد للسلام"!
Ø ترامب
وأوكرانيا:
أما وقد نجح ترامب في الانتخابات، ولم يتبقّ على عودته إلى البيت الأبيض
إلا أيام معدودة، فمن الواضح أنه فشل في تحقيق أحد أهم وعوده خلال حملته
الانتخابية على صعيد السياسة الخارجية: إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بينما هو
في منصب "الرئيس المنتخب"!
لقد وضع الرئيس بوتين شرطين
واضحين لمجرد التفاوض على إنهاء الحرب: الاعتراف بالمناطق التي استولت عليها روسيا
على أنها مناطق نفوذ روسية، وتخلي كييف إلى الأبد عن مساعيها في الانضمام إلى
الناتو. ولا أعتقد أن يتنازل بوتين عن هذين الشرطين، رغم المرونة التي حاول أن
يبديها -غالبا لإظهار حسن النية- بأن يلتقي بترامب دون شروط مسبقة.
وكما أوضح وزير الخارجية الروسي
سيرغي لافروف، فإن روسيا لن تقبل بمقترحات فريق ترامب لإنهاء الحرب، والتي من
أهمها: تأجيل انضمام أوكرانيا للناتو لمدة 20 عامًا، ونشر قوات حفظ سلام أوروبية
وبريطانية في أوكرانيا. ومن وجهة نظر لافروف، فإن هذه المقترحات من شأنها أن تجمد
الصراع فقط، لا أن تحله. وأكثر من ذلك: من شأنها أن تضع الروس في مواجهة القوى
الأوروبية التي ستبقى لحفظ السلام!
من الجنون أن نتصور أن يقبل
بوتين بمثل هذه المقترحات من بعد ما خاضته بلاده في أوكرانيا، خصوصًا وأن له ولبلاده
اليد العليا على أرض الواقع!
Ø ترامب
ومناهضة الحرب:
وفيما يخص كون ترامب "مناهضا للحرب"، فهذا أبعد ما يكون عن
الواقع! وأما أقرب ما يكون إلى الواقع هو حقيقة أن ترامب "مناهض لتكلفة
الحرب" وحسب! أما إذا كانت فواتير الحرب مدفوعة، أو فيها مصلحة للولايات المتحدة
وإسرائيل (كما يقرأ مصالحها ترامب نفسه وفريقه ومن يموله)، فإنه لن يتوانى عن
خوضها. ولا ننسى أن هذا الرجل قد خاض بالفعل مغامرات خطيرة في ولايته الأولى، مثل
الإقدام على قتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
ومن هنا ننطلق إلى موقف ترامب
من الشرق الأوسط وما يحدث فيه.
Ø ترامب
وإسرائيل:
الكثير من الناس يعتقدون بأن
ترامب أفضل للشرق الأوسط من بايدن. بالنسبة لي، فإني أعتقد بأن كلًّا منهما أخبث
من الآخر فيما يخصّ الشرق الأوسط. ولكنّي أرجّح أنه لو كان ترامب هو الرئيس عند
تفجّر السابع من أكتوبر، فإن أفعاله في دعم إسرائيل كانت لتفوق ما فعله بايدن!
وأكثر من ذلك: ما كان لينافق ولا ليتردد في الدعم العلني لإسرائيل، وما كان ليدعو
لحلّ الدولتين كما يحاول بايدن وفريقه أن يُظهروا للإعلام، بل من العادي جدًّا أن ترامب
كان ليعطي إسرائيل "شيكا على بياض" لتفعل كل ما تشاء من إبادة واحتلال،
ولن يكترث بردود الفعل الدولية!
وهذا بالفعل ما أوضحه ترامب في
تصريحاته تجاه حرب غزة: "بايدن لا يدعم إسرائيل كما يجب عليه أن يفعل، ولا
يسمح لـ"بيبي" بأن يُنهي عمله! علينا أن نُعطيهم ما يلزم، وأن ندعهم
يُنهون عملهم"!
لا أبالغ لو قلت بأن السبب
الأساسي في حدوث السابع من أكتوبر هو ترامب نفسه في ولايته الأولى، حيث همّش
فلسطين والقضية الفلسطينية تهميشًا يجعل منها كـ"الصفر على الشمال"، وأعطى
لإسرائيل ما أعطى من القدس والجولان ومعاهدات التطبيع مع أربع دول عربية، ومهّد
الطريق إلى المزيد من تهميش الفلسطينيين وقضية بلادهم، وإلى المزيد من معاهدات
التطبيع مع إسرائيل.
ما حدث السابع من أكتوبر إلا
ثورةً على كل هذا التهميش والظلم لفلسطين وللفلسطينيين وللقضية الفلسطينية!
وما يجدر بالعالم أن يتعلمه
درسًا من هذا الحدث العظيم هو: على من يحاول أن يصنع السلام أن يسعى إلى "سلام
مُستدام وحقيقي"، سلام يضمن حقوق الجميع ولا يُهمّش طرفًا أساسيًّا من
المعادلة ورقمًا صعبًا فيها. ما الفائدة من التفاوض مع الدول العربية على
"السلام"، بينما البنادق مُسلّطةٌ على رؤوس الناس المُحاصرين في تلك
البقعة الضيقة من الأرض والذين هم المعنيّون الأساسيون بما يتم التفاوض عليه؟ أية
حماقة هذه؟
ما يزال ترامب مُصِرًّا على الدعم
المُطلق لإسرائيل، وعلى تهميش فلسطين والفلسطينيين تهميشًا مُطلقًا، وعلى إطلاق
التهديدات مرارًا وتكرارًا لهم بإشعال الشرق الأوسط جحيمًا كاملًا "إذا لم
يتم إطلاق الرهائن قبل توليه المنصب"! وكأنه ثمة جحيم بالفعل لم تُشعله
إسرائيل وأمُّها الأميركية في فلسطين!
وعلاوةً على ذلك، لا ننسى تصريحه
المُستفزّ الذي قال فيه بأن "إسرائيل صغيرة جدًا وسط مساحات شاسعة"، في
إشارة إلى رغبته في توسيعها، وإن كان ذلك على حساب الأراضي العربية المحيطة!
مع ذلك، يعتقد بعض المتفائلين
في الشرق الأوسط بأن ترامب، بما أنه سيكون في ولايته الثانية، ولن يسمح له الدستور
الأميركي بالترشح لولاية ثالثة، فإنه لن يخشى "اللوبي الصهيوني" ونفوذه
هذه المرة، وقد يسمح له ذلك بأن يكون أكثر حزمًا مع نتنياهو وإسرائيل إذا هو أراد
أن يُنهي الحرب حقًّا.
ولكنّي لا أعتقد بأن هذه هي
حقيقة الأمر، ولا أدل على ذلك من تعييناته لأفراد متطرفين جدًّا في دعم إسرائيل ووضعه
إياهم في مناصب مهمة تتعلق مُباشرةً بالشرق الأوسط؛ نذكر منهم: ستيف ويتكوف، رجل
الأعمال اليهودي المتطرف، في منصب المبعوث للشرق الأوسط. ومايك هاكابي، الصهيوني
المؤيد للاستيطان علنًا، في منصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل. وإليز
ستيفانيك، الصهيونية التي حاكمت رؤساء ورئيسات الجامعات في الكونغرس لسماحهم
بالمظاهرات ضد إسرائيل في جامعاتهم، في منصب مبعوث أميركا للأمم المتحدة!
يُصر المتفائلون على تفاؤلهم
بأن يقولوا: ربما تعييناته المتطرفة هذه هي مجرد ورقة يستعملها ترامب لتحسين موقفه
التفاوضي ضد أعدائه؛ إخافتهم لدفعهم قسرًا لتحقيق السلام.
ربما يكون ذلك صحيحًا. ولكن لن
يخفى على النبيه مبلغ ما في هذه السياسة من خطر عظيم، إذ هي نفسها سياسة
"حافة الهاوية". ومن أكبر علامات الحماقة والغباء استعمال هذه السياسة
وتوظيفها في كل موضع كما يفعل ترامب: في فلسطين، في إيران، في أوكرانيا.. إلخ!
فلنتصور السيناريو التالي:
يحاول ترامب أن يخيف بوتين فيهدده ليجبره على التفاوض وقبول السلام بالشروط
الأميركية لا الروسية، فلا يستجيب بوتين، أو يستجيب فيردّ عسكريًّا، وبالتالي
يُجبر ترامب على الرد عسكريًّا أيضًا، وتنشب الحرب العالمية الثالثة التي وعد
بمنعها! وإذا لم يرد عسكريًّا، فلن يأخذه أحد ولن يأخذ تهديداته على محمل الجد
أحد!
ولا يملك ترامب أن يهدد بوتين
وروسيا بالعقوبات الاقتصادية (أو التعريفات الجمركية التي يهدد بها العالم بأكمله)
أيضًا؛ ببساطة لأن الغرب استنفد العقوبات الاقتصادية التي كان يمكنه أن يحاصر بها
روسيا، وتمكنت روسيا من الصمود رغم كل تلك
العقوبات!
وأما في فلسطين وغزة، فعن أي
جحيم يتحدث ترامب الذي يمكنه أن يشعله إذا لم تحرر حماس الرهائن؟ هل بإمكانه أن
يفعل أي شيء أكثر مما فعلته إسرائيل أصلًا؟ ومن الذي سيأخذه على محمل الجد إن هو
لم يفعل شيئًا؟
لقد دمرت إسرائيل قطاع غزة حتى
جعلته تقريبًا غير قابل للسكن. وعلى الأغلب، لا يملك ترامب أن يفعل أكثر من ذلك!
وهذا ما يقودنا إلى خياره الذي
قد يظن -بحماقة- أنه الحل: مهاجمة إيران عسكريًّا!
Ø ترامب
وإيران:
عندما سُئِل ترامب عن احتمالية
المواجهة العسكرية مع إيران أجاب: "أي شيء قد يحدث".
ومُجدّدًا: يرى البعض بأن هذا
التصريح يُراد منه أن يكون بطاقةً تفاوضية لإخافة إيران وإجبارها على الخضوع
للولايات المتحدة. ومُجدّدًا نقول: هذه سياسة حمقاء وغبية وبالغة الخطورة!
فلنتصور سيناريو تنفيذ ضربة
عسكرية على إيران: تضرب الولايات المتحدة (وربيبتها إسرائيل) الجمهوريةَ الإسلامية
عسكريًّا، فتقوم إيران بغلق مضيق هرمز (وهذا أضعف الإيمان)، فتعرقل الإمدادات
النفطية العالمية، وتتسبب بأزمة اقتصادية عالمية تقلب عالي ترامب وولاياته المتحدة
سافلها، فتُهتك وعوده الانتخابية أوتوماتيكيًّا بمنع "الحرب العالمية
الثالثة" و"إنهاء الحروب" و"عدم البدء بحروب"!
هذا وناهيك عن احتمالية أن ترد
إيران (التي تتمتع بموقع جيوستراتيجي في غاية الأهمية) لا بمجرد غلق مضيق هرمز
وحسب، ولا بالتسبب -عن طريق ذلك- بأزمة اقتصادية ونفطية عالمية وحسب، بل بأن
تستهدف القواعد الأميركية في المنطقة فتقتل جنودًا أمريكان، وتتلف معدات أميركية،
وبأن تضرب العمق الإسرائيليّ، وبأن تفتح النيران على نحو "عليّ وعلى
أعدائي"!
وبانشغال الولايات المتحدة
الأميركية -بحماقة- بإيران، قد لا تتوانى الصين عن أن تستغل ذلك فتفرض سيطرتها على
تايوان، وبدء الحرب العالمية الثالثة!
بكل صراحة، إذا كان الإيرانيون
أذكياء بما يكفي، فإنهم لن يتوانوا عن تطوير السلاح النووي اليوم قبل الغد، وإن
كلفهم ذلك المزيد من العقوبات الاقتصادية على بلادهم، وذلك لأن إسرائيل وأميركا لا
تعرفان سوى القوة وجهًا، ولن يقود اللينُ معهما إلا إلى إضعاف إيران سياسيًّا
وعسكريًّا، بل وحتى إلى تدميرها. ولن ترتدع الولايات المتحدة ولا إسرائيل إلا
بالردع النووي، رغم ما فيه من مخاطر عظمى على الأمن والسلام العالمي.
وثمة بعض الأخبار والتقارير
التي تشير إلى أن إيران باتت بالفعل أقرب من أي وقت مضى إلى امتلاك السلاح النووي.
ولكن، وعلى وجه العموم، فإن سياسات ترامب وتصريحاته تجاه إيران، وخصوصًا تلك التي يتحدث فيها عن إمكانية "تحرك عسكري"، هي تصريحات غير مسؤولة، وفيها من الخطورة البالغة ما فيها.
v ترامب والانقلاب
على الحلفاء والنزعة النابليونية التوسعية:
لم يسلم من ترامب ومن حماقاته الكبرى حتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة،
وعلى رأسهم: الاتحاد الأوروبي، وكندا!
يزدري ترامب حلف شمال الأطلسي
ازدراءً علنيًّا، ويعتبره عبئًا اقتصاديًّا على الولايات المتحدة، ولا يكفّ عن
تهديد حلفائه الأوروبيين وتخييرهم بين "قرقشة جيوبهم" أو
"شخللتها"، كما يقول إخوتنا المصريّون، أو بين أن يُتركوا لمصائرهم
وتخلي الولايات المتحدة الأميركية عنهم وعن الدفاع عنهم!
ولكن ليس ذلك كل شيء! لقد بلغ جنون
العظمة في ترامب أن يزدري أقرب حليف للولايات المتحدة جغرافيًّا، وثاني أكبر بلدان
العالم مساحةً: كندا، ووصفها علنًا بـ"الولاية الأميركية الواحدة
والخمسين"!
وغير "الولاية الأميركية
الواحدة والخمسين" كما يصفها.. كندا، نجده أيضًا يعرض على الدنمارك شراء "غرينلاند"
منها، وهي أكبر جزيرة في العالم (وتكاد تعادل مساحة المملكة العربية السعودية، بل
تكبرها بقليل)، بل ويصرّ على شراء هذه الجزيرة بأهلها -الذين صرحوا أنهم وبلدهم
ليسوا للبيع-!
وغير هذا وذاك، فهو يهدد بنما
أيضًا بإعادة السيطرة الأميركية على قناة بنما، وانتزاع السيادة عليها من البنميين
الذين تُعتبر هذه القناة من بين أهم مواردهم الاقتصادية!
وها هو الملياردير الذي ساعد
ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض، إيلون ماسك، يطرح تغريدةً يسأل الناس فيها:
"هل على أميركا أن تحرر الشعب البريطاني من حكومته الاستبدادية؟". أية
وقاحة أكبر من هذه: التهديد، أو مجرد التلميح إلى إسقاط حكومة منتخبة
ديمقراطيًّا؟!! وأية حكومة؟ حكومة أهم وأقرب حليف للولايات المتحدة: بريطانيا!
v استنتاج:
يحاول ترامب أن يصوّر نفسه دومًا على أنه "مجنون" و"يصعب
التنبؤ بتصرفاته"، من أجل أن يمنح نفسه هيبةً أمام زعماء العالم ليجبرهم على
التعامل معه. ولكن، رغم ذلك، وكما تبين من الصفحات السابقة، من السهل أن نعرف
الخطوط العريضة لتصرفات ترامب وسياساته الحمقاء التي لا تُسهم إلا في زعزعة
استقرار العالم، وفي جعله مكانًا أسوأ!
لن تجدي سياسة "حافة
الهاوية" هذه التي يتبعها في شيء. ولن يتمكن من إنهاء الحرب الروسية
الأوكرانية أبدًا إلا إذا أنهاها بشروط تناسب الروس وتلبي التطلعات الروسية، وهذا
ما أستبعده مع الأخذ بعين الاعتبار من أحاط ترامب بهم نفسه من مستشارين ومسؤولين،
ومع الدولة العميقة!
ولن يتمكن من إنهاء الحرب في
غزة أيضًا بالطريقة التي يتبعها في التهديد والوعيد. ومن المُستبعد أن تنتهي الحرب
إلا بطريقة واحدة: اتفاق وقف إطلاق النار دائم بين إسرائيل وحماس، بما يتضمنه ذلك
من ضمانات ومن إفراج عن الرهائن. وبغير ذلك، لن تتوقف الحرب!
ولن يتمكن ترامب من فعل شيء في
مواجهة اليمن الذي عسرت مواجهته وهزيمته في البحر الأحمر وفي عقر داره، خصوصًا مع
غموض اليمن وعسر جغرافيته وطبيعة أهله.
وإذا تجرأ فضرب إيران عسكريًّا،
فإن أقل ما سوف تفعله هذه الأخيرة هو التسبب في أزمة اقتصادية عالمية تقلب الطاولة
على ترامب وعلى الشعب الأميركي وعلى الغرب بأكمله، فتشعله أزمات سياسية واقتصادية
بالتبعية. وغير ذلك، فقد تضرب القواعد الأميركية في المنطقة أيضًا، وتضرب العمق
الإسرائيلي. أو ما هو أسوأ: قد تطوّر السلاح النووي!
باختصار: ترامب وحماقاته وصفة
لكارثة عالمية كبرى، أو حرب عالمية ثالثة!
ولن يمنع كل هذه السيناريوهات
المخيفة إلا التروّي واتّباع العقل، والتعويل هنا على "صعوبة توقع ترامب
وتصرفاته" لا أكثر؛ أن ينقلب على تصريحاته العدائية بنفسه بطريقة ما، وأن
يتبع العقل لا الحماقة والاندفاع!
v تحديث- 16
يناير 2025م (اتفاق إنهاء الحرب):
يوم الأربعاء الموافق 15 يناير 2025، أعلن دونالد ترامب، وجو بايدن، ومُختلف
وسائل التواصل العالمية أنه قد تم التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحماس، مع تنازلات
كبيرة -لم تكن متوقعة- من الجانب الإسرائيلي، بما في ذلك إنهاء الحرب وعدم العودة
إلى القتال.
وبمجرد أن أُعلن وقف إطلاق
النار، تسابق الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن مع الرئيس الأميركي السابق والرئيس
المنتخب حاليا دونالد ترامب على الفضل في التوصل إلى صفقة: بايدن يدعي أن هذا
الاتفاق هو ثمرة جهوده وجهود إدراته وأن الفضل يعود إليه وإليهم، في الوقت نفسه
الذي يشدد فيه ترامب على أن التوصل إلى صفقة لم يكن إلا بفضله وبفضل فوزه في
الانتخابات.
برأيي، بل وكما هو واضح للعالم
بأكمله، فإن بايدن الذي لم يفعل شيئًا طوال 15 شهرًا من الحرب والإبادة الجماعية،
والذي لم يحترمه نتنياهو ولم يستمع لكلامه طوال تلك المدة، لم يكن له ولا لإدارته أي
فضل في التوصل إلى تلك الصفقة التي تم الإعلان عنها يوم الأربعاء. وغالبا: هي جهود
ترامب.
من الواضح أن ترامب، كما ذكرنا
سابقا، فشل في الحفاظ على وعوده بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بينما هو رئيس
منتخب. ولكنّي أعتقد بأنه قام بتركيز جهوده على غزة والشرق الأوسط كي ينهي الحرب، وليعوّض
بهذا النجاح فشله في إخماد نار حرب أوكرانيا. ولذلك، فإنه -على ما يبدو- قد مارس
على نتنياهو ضغطا كبيرًا لقبول الصفقة وإنهاء الحرب.
وكل ما يسعني أن أقوله، في هذا
الخصوص، وفي هذا الموضع: على إخوتنا الفلسطينيين ألّا يثقوا أبدًا بالسياسيين الأمريكان
ولا بالإسرائيليين؛ فإنهم أبعد الناس عن احترام الاتفاقيات والمواثيق، وأقرب الناس
إلى الغدر ونكث العهود. وأنا أرجّح أن ترامب قد وعد إسرائيل بشيء في المقابل (ولا
أستبعد أن يكون في الأمر خدعة هادفة إلى تحرير الرهائن الإسرائيليين الأحياء ومن
ثم العودة إلى القتال بافتعال أسباب لإنهاء الاتفاق على وقف الحرب، والاستمرار في
الإبادة، ولن يلجمهم عن ذلك ترامب على الأرجح بعد استعادة الرهائن)! وإلا فلم تقدم
إسرائيل على هذه التنازلات الكبرى التي من ضمنها الانسحاب الكامل من القطاع؟
لا شك لديّ بأن ترامب قد وعد نتنياهو
والإسرائيليين بشيء ما، وهذا الشيء سوف يكون حتما على حساب الفلسطينيين (وقد يكون
عودةً إلى الحرب).. الله أعلم! سوف يتضح لنا ذلك مع الأيام.
جميعنا نتمنى وقف الحرب. وأعتقد
بأن ترامب، بفعلته هذه، وممارسته ضغطا كبيرًا على نتنياهو، قد أحسن فعلًا (وقد أذهلني
حقا أنه تمكن من فعل ذلك). ولكني لا أثق به، ولا بإسرائيل، ولا بنتنياهو.. أبدًا،
ولا أستبعد أن تكون هذه العصابة قد خططت لشيء يهدف إلى جعل يد إسرائيل هي العليا
في المنطقة بعد استعادة الرهائن، رغم ما يتوارد في بعض التقارير من أن خوف نتنياهو
من عدم قابلية التوقع بتصرفات ترامب هو ما دفعه إلى قبول الصفقة، ما يشير إلى وجود
شرخ بين الرجلين عبر عنه ترامب أكثر من مرة.
على أية حال، رغم الفرحة
بالتوصل إلى اتفاق، من بعد كل الدماء التي سُفِكتَ، والبيوت والأحياء والبُنى
التحتية التي دُمّرت، والعوائل التي يُتِّمت، أقول: رغم كل ذلك، لا ينبغي لنا أن
نثق بالأمريكان والإسرائيليين.
تعليقات
إرسال تعليق