مراجعة ونقد رواية "البكاؤون" للدكتور عقيل الموسوي
في مسرحية "اللي يدري يدري" لطارق العلي، والتي شاركت في بطولتها
الفنانة البحرانية فضيلة المبشر، تمزج هذه الأخيرة بين اللهجة البحرانية التقليدية
واللهجة البحرينية المعروفة على وسائل الإعلام. استغرب طارق العلي بدوره لهجةَ
فضيلة -والتي لم تكن لهجةً بحرانيةً خالصةً أساسًا، وشابها شيءٌ من الهزل-، إلى
درجة أن العلي قال عن فضيلة -في المسرحية-: "هذي مو من البحرين.. من سنغافورة"،
ثم يخاطبها قائلًا: "ماصدّق انتي بحرينية"!
لم يتجاوز عمري الخامسة عشرة
عندما شاهدتُ تلك المسرحية للمرة الأولى. ومنذ المشاهدة الأولى، جرحني أن اللهجة
البحرانية لم تكن معروفة حتى بين الفنانين من دول الجوار الشقيقة، وأن التحدث بها
كان مدعاةً للاستغراب! (ولربما رأى بعض القراء الكرام أن في هذا القول شيء من
الحساسية والمبالغة، ولكن هذا بالفعل ما شعرت به).
وعلى صعيد الإعلام المحلي في
البحرين، فإن صورة "البحراني المتخلف" متكررة كثيرًا، وفي أكثر من
مسرحية ومسلسل.. لا بد من وجود ذلك "الكائن الفضائي": ذي النظارة التي
هي أكبر من وجهه، وسنّي الأرنب الأماميّين البارزين، واللهجة المبالغة والباعثة
على الغثيان. أو بدلا من هذا "الكائن الفضائي"، تشيع صورة "القروي
المتخلف" الذي لا يعرف كيف يتعامل مع "العالم المتحضر"، والعاجز عن
إتقان مخارج الحروف والنطق السليم.
ورغم أن المكوّن البحراني هو
جزء أصيل وأساسي من مكونات شعب البحرين، فإن التمثيل اللائق لهذا الجزء الأصيل من
الشعب البحريني ما يزال ضعيفًا، بل وشبهَ غائب عن الإعلام الرسمي والفعاليات
السياحية. ولا أجد في ذلك إلا مدعاةً للأسف.
على أية حال، تأتي رواية
"البكاؤون" وكأنها "رد اعتبار" لهذا المكون الأصيل من مكونات
الشعب البحريني، بالقدر ذاته الذي بدت فيه وكأنها "نقد" أيضا إليهم،
وللكثير من الظواهر والسلوكيات السلبية المتفشية بينهم.
تأتي رواية
"البكاؤون" وكأنها صرخة ضد "التنميط والتعميم الخاطئ"؛
فالبحارنة ليسوا طيفًا واحدًا! وهم، وإن جمعتهم "نشأة التشيع"، وعادة
"البكاء على الحسين"، فإن التيارات السياسية بل وحتى الدينية، بشتى
أنواعها، وجدت طريقًا إلى بث الخلاف والاختلاف بينهم؛ فأنت ستجد بينهم اليساري
والإسلامي مثلا، ولكن من هذين التصنيفين تنبثق فئات أخرى عديدة: من اليسار سوف تجد
القومي، والبعثي، والاشتراكي، والشيوعي.. وهلم جرا. ومن الإسلاميين ستجد إخباريين
وأصوليين، ومؤيدين لولاية الفقيه ومعارضين، وانقسامات أخرى!
الجميل في رواية
"البكاؤون" أنها رواية تبرز كل هذه الاختلافات والتناقضات التي يضج بها
المجتمع البحراني بأسلوب بديع، فيه حياد أحيانا وفيه انحياز طفيف أحيانا أخرى.
في النقاط اللاحقة، سوف أتناول
-باختصار- الجوانب التي لفتتني في الرواية، سواءً بالإيجاب أو السلب، من كلا
الناحيتين الفكرية والفنّية.
· سابقة
الرواية في تناول الاختلافات البحرانية بهذه الجرأة:
لن أخفي دهشتي الكبرى من تناول عقيل الموسوي لكل هذه الاختلافات والتناقضات
التي يصطخب المجتمع البحراني بها، بكل هذه الجرأة والصراحة اللتين وجدتهما في
الرواية!
أعتقد أنه، وبسبب التوترات التي
سادت المنطقة لأكثر من عقد كامل، أصبحت الغالبية العظمى من الكتابات والأعمال تنأى
بنفسها عن الخوض في الاختلافات الدينية والمذهبية بصراحة، ولا تذكرها إلا على
استحياء، وخصوصًا الاختلافات بين الدين الواحد أو المذهب الواحد، للابتعاد عن
إثارة النعرات الطائفية أو نبش الجروح. بينما عقيل الموسوي، في روايته هذه، يتناول
هذه الاختلافات بين البحارنة الشيعة، وعلى كلا الصعيدين السياسي والمذهبي، بصراحة
شديدة وباعثة على الاستغراب! والباعث أكثر على الاستغراب، هو نشر
"تكوين" لهذه الرواية الجميلة والجريئة، ومن ثم تأهل هذه الرواية نفسها
إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"!
ومن المعروف أن فوز الأعمال
عمومًا (والروايات خصوصًا) بجوائز معينة، أو حتى مجرد تأهلها للفوز، كما حدث مع
رواية "البكاؤون" لعقيل الموسوي، قد أصبح عاملًا كبيرًا في جذب القراء إليها.
ولن أخفي أن تأهلها ووصولها للقائمة الطويلة قد جذبني إليها أنا شخصيًّا أيضًا؛
كنت أفكّر: ما الذي جعلها تتأهل للقائمة الطويلة؟
وبحكم هذا الفضول نفسه، اندفعت
إلى قراءة الرواية.
أما فيما يخص دهشتي من نشر
تكوين للرواية ووصولها للقائمة الطويلة، فمَرَدُّ ذلك إلى دهشتي من جرأتها نفسها
في تناول الاختلافات السياسية والمذهبية بكل تلك الصراحة التي وجدتها في الرواية! ولعمري
فإن ذلك يُحسب لكاتب الرواية، كما أخبرته وجهًا لوجهٍ عندما التقيناه مع مجموعة من
الأصدقاء القراء.
وباعتقادي أن هذه الرواية قد
تُلهم كُتّابًا في المستقبل -بما فيهم أنا شخصيًّا- ليتناولوا هذه النوعية من
الاختلافات بجرأة أكبر في أعمالهم المستقبلية.
· قضية
"السفارة" و"البهائية" في "البكاؤون":
بالنسبة لي، فإن أول مائة صفحة من الرواية تقريبًا لم ترُق لي، لأسبابٍ
سآتي على ذكرها لاحقًا. ولكن، وبمجرد أن فتحت الرواية قصة "السفارة"
وامتدادها التاريخي في المجتمع البحراني، وما أثارته من خلافات ومعارك فيه، ازدادت
الرواية روعةً وتشويقًا.
وأما إثارته لعلاقة
"البهائية" بالإسلام، وإلى أصول البهائية ونشأتها وتطورها، وكيفية عيش
المنتمين إليها، وإلى موقف الشيعة منها، فقد راقني ذلك منه إلى أبعد حد؛ إذ كانت
لدي فكرة عن البهائية وقرأت عنها منذ زمن طويل، ولكنّ إثارة الرواية لكل هذه
الأمور المتعلقة بها أنعشت ذاكرتي ومعلوماتي.
· التحولات
الفكرية للمجتمع البحراني في "البكاؤون":
لعل من بين أجمل الجوانب التي أبرزتها الرواية بشكل رائع، جانب التحولات
الفكرية التي مر بها المجتمع البحراني على امتداد تاريخه، من الخمسينات وحتى الربع
الأول من القرن الحادي والعشرين. فالجدّ في الرواية "الحاج عبدعلي" قومي
يميل إلى البعثية، وأما زوجته "الملاية حسينية"، المنتمية أصلا إلى
المحمرة، فإنها "اسم على مسمى": حسينية الهوى، وإسلاموية الانتماء
السياسي، وكذلك أيضًا هو ولدها البكر، ووالد البطل: "جواد".
وبين هذه الانتماءات المتضاربة،
ينشأ تضارب آخر بين الولد الأول لعبدعلي وحسينية "جواد"، وبين الولد
الثاني "عباس". فبينما الأول "أصولي التشيع"، خمينيّ وخامنئيّ
الهوى، فإن الثاني "أخباريّ"، غير مؤيد لقيام حكم شيعي في زمن غيبة
الإمام المهدي.
ومن ثم يأتي البطل "صادق
بن جواد بن عبدعلي"، ويجد نفسه وسط كل هذه التيارات والمؤثرات: جده القومي
البعثي العروبي، وجدته الملاية حسينية، وبيئته الشيعية، ومن ثم بيئته المدرسية
التي تعرف منها إلى "الأستاذ غازي" المنتمي إلى "جمعية
التجديد" المتهمة بـ"السفارة".. وهلم جرًّا!
كانت إثارة كل هذه التحولات
والاختلافات في الرواية جميلةً جدًّا.
· بناء
الشخصيات والسرد في رواية "البكاؤون":
عندما قلتُ بأن المائة صفحة الأولى من الرواية لم ترق لي، كان مَرَدّ ذلك
إلى بعض الثغرات التي وجدتها في الرواية من ناحيتين: الناحية السردية أولًا،
وناحية بناء الشخصيات ثانيًا.
من الناحية السردية، فإن في
الرواية، منذ بدايتها، قفزات زمنية هائلة وغير معقولة، تتجاوز الشخصيات وتحولاتها الدرامية
الكبرى وتجعلها تبدو وكأنها لا شيء!
وهذه هي الملاحظات بشيء من
التفصيل:
1.
خذ مثلًا بين الصفحتين 18-19؛ ففي هاتين
الصفحتين، يوضح الموسوي التحولات التي مر بها جواد، من دراسة الطب في مصر إلى
دراسة العلوم الشرعية في إيران، ومن ثم الانزلاق إلى مقاتلة صدام في الحرب
العراقية الإيرانية مع جيش إيران، ومن ثم إلى السجن في البحرين، ومن ثم الخروج من
السجن. هذه تحولات كبيرة، والكاتب وضعها كلها في بضعة أسطر وعبر عليها عبور الكرام،
دون أن يبين أثرها على شخصية جواد نفسها!
وبينما قد يُعجب بعض القرّاء بذلك، ويجدون
فيه اختصارًا وتكثيفًا، فإني قد وجدتُ فيه سببًا لوجود بعض الاختلال في السرد وبناء
الشخصيات، ولم يرق إليّ هذا القفز الزمني وتجاوز الشخصيات وتحولاتها بهذه الطريقة
العابرة جدًّا.
مع ذلك، ربما كان مع الكاتب
عذره إذ أراد اختصار الرواية وتجنب الإسهاب فيها لئلا تطول أكثر. ولكن ذلك في رأيي
أثّر على بناء الشخصيات وعلى السرد.
2.
مثال آخر بسيط: في الصفحة 20، وفي فقرة
واحدة، تصل "الملاية حسينية" إلى كربلاء بمعية ولدها عباس. وهناك، يسمع
الزوّار فجأة -ومن دون أي مبرر سردي يوضح كيف سمع الزوار فجأة- بمعجزتها الزائفة
حيث "بكى جدار مأتمها" (واتضح لاحقًا أن ذلك لم يكن إلا ماءً متسربًا من
خزان السطح). وبمجرد أن يسمع الزوّار -عجائبيًّا- بمعجزة "حسينية"
المزعومة، تتبرك نساء العراق بعباءتها، وتدعونها إلى قراءة مصيبة الحسين في
مآتمهن، فتُعيد "السيدة حسينية ذكرى الأمجاد الحسينية لعائلتها في
المحمرة"، ومن ثم تعود إلى البحرين. كل تلك الأحداث تجري في فقرة واحدة صغيرة
في الصفحة 20!
مجدّدًا: وجدتُ في ذلك قفزًا على المعقولية
السردية، وعلى السرد الحدثي، وعلى بناء الشخصيات في الرواية!
وبينما أُعجب العديد من القراء
بشخصية "الملاية حسينية"، فإنّي، أنا شخصيًّا، لم أجد شخصيتها معقولة.
تمنّيت لو أن الكاتب احتفظ بها أكثر على امتداد الرواية، على الأقل حتى المنتصف،
كي يعطيها معقولية وواقعية أكثر.
حضورها العجائبي القصير جدًّا
خلال الرواية أضعف من معقوليتها وشرعيتها السردية بالنسبة لي، فلم أجد شخصيتها معقولةً
سرديًّا.
3.
وفي الصفحة 22 من الرواية، وبالحديث عن
"معجزة بكاء الجدار" المزعومة، يقول السارد: "تبين أن الجدار
الدامع ليس سوى رطوبة تسربت من خزان الماء فوق سطح البيت"، دون أن يوضح
الكاتب "لِمَن تبين ذلك"؟ و"ماذا كانت آثار تبيّن ذلك" على
حسينية وشرعيتها الدينية الكبيرة في الرواية؟
ولم أجد من المعقول أيضًا وجود "خزان
الماء فوق سطح البيت" فوق المأتم مباشرة؛ إذ عادةً ما تكون "المآتم
البيتية" في الطابق الأرضي من البيت، وإذا كانت في الطابق الأرضي، فما مبرر
وجود خزان سطح المياه فوقها مباشرةً، خصوصًا وأن السارد يقول بأن بيت "الحاج
عبدعلي" بيت كبير؟
مع ذلك، ربما يبرر بعض القراء
"والكاتب أيضًا" ذلك بطريقة ما: ربما كان المأتم منفصلًا عن البيت وله
خزان مائه الخاص.
ولكن ليس ثمة من تبرير لعدم
توضيح "لمن تبين" زيفُ معجزة "الملاية حسينية"!
4.
من جانب آخر، لم تعجبني طريقة تعريف الكاتب بالشخصيات
بطريقة تسلسلية، وإقحامه العديد من الشخصيات في البداية، والتي سيتضح لاحقًا أن
دورها شديد الهامشية في سيرورة الرواية لاحقًا. تمنيت لو أن الكاتب عرّفنا على
الشخصيات عن طريق الأحداث، وبالتركيز فقط على الشخصيات ذات الثقل والأهمية في
سيرورة الرواية لاحقًا.
5.
أدهشني تصوير الكاتب لصادق على أنه تربى لدى
جده "الحاج عبدعلي" القومي العروبي، ومن ثم انقلابه فجأة عندما ذهب إلى
المدرسة حيث لم يعد جده المؤثر الأساسي عليه، وإنما جدته الملاية حسينية!
كيف ذلك؟ هل يعيش الحاج عبدعلي بشكل منفصل عن
زوجته الملاية؟ ألا يعيشان معًا؟ لماذا لم تؤثر عليه الملاية سابقًا في حين أنه
يعيش معها ومع جده في نفس البيت؟
· الخلاصة:
في المجمل، كانت هذه الرواية من أروع الروايات البحرينية التي قرأتها،
واستمتعت بقراءتها كثيرًا. لم أستعجل في قراءتها، وتلذذت بكل صفحة من صفحاتها،
وغمرني شعورٌ بالاعتزاز كـ"بحرينيٍّ" وكـ"بحرانيٍّ" أيضًا لأن
هذه الرواية، التي تتحدث عن "البحارنة" بشكل أساسي، قد تأهلت من بين
مئات الروايات إلى القائمة الطويلة لجائزة "البوكر" العربية.
ورغم كل الملاحظات البسيطة التي
أتيت على ذكرها من الناحية الفنيّة، على مستوى السرد وعلى مستوى بناء الشخصيات،
فلا بدّ لي أن أعترف بأن هذه الرواية تستحقّ التأهل؛ لكل ما حملته وزخرت به من
أفكار واختلافات وتناقضات، رغم بساطة وسلاسة تأسيسها السرديّ، وقد وجدتُ بأن وصف
السرد في الرواية بأنه من قبيل "السهل الممتنع" وصفٌ لائق.
وفي الختام، أتمنى للدكتور عقيل
المزيد من التألق والإنجاز، وأتمنى منه المزيد من العطاء والإبداع؛ فقلمه من أروع
الأقلام البحرينية التي قرأت من إنتاجها، وأدعو الله أن يستمر ولا يتوقف أبدًا
عطاؤه.
وهذه ليست إلا كلمات أخ مُحبٍّ
للدكتور عقيل ولإنتاجه وإبداعه.
حسين كاظم
14/3/2025
تعليقات
إرسال تعليق