أن نعيش كما يرغب الآخرون.. أو كما نرغب لأنفسنا!
![]() |
صورة أنشئت بالذكاء الاصطناعي للحسين بن منصور الحلاج وهو في المحاكمة |
بإلقاء نظرة مُقارِنة بين مجتمعاتنا العربية-الإسلامية، وبين المجتمعات الغربية، يتجلى لنا فرق واضح في طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع تحديدًا.
بينما الأولوية في المجتمعات
الغربية، بحسب طبيعتها الليبرالية، هي للفرد وحريته، فإن الأولوية في مجتمعاتنا،
بحسب طبيعتها الإيديولوجية والتاريخية المعقدة، هي للمجتمع واستقراره بالدرجة
الأولى، على حساب الفرد وحريته.
وبينما الفرد يتمتع
بالاستقلالية في المجتمعات الغربية، فيتخذ قراره بنفسه، ولا يخضع لقرارات الآخرين،
ويقدّم رغباته في التصرّف على رغبات الآخرين، فإنه، في مجتمعاتنا، يكون مُقيَّدًا
إلى حدٍّ كبيرٍ بالمجتمع، وخاضعًا لوصايته، فلا يتمكن من اتخاذ قراره بنفسه كلّيًّا، بل يُضطر إلى اتّباع
ما قُرِّرَ إليه اضطرارًا، وإلى تقديم رغبات الآخرين -سواءً كانوا من أهله أو من
مجتمعه الأكبر- على رغباته الشخصية، كي يرضيهم وحسب، أو ليحافظ على بقائه
"جزءًا منهم"، كي يبقي على "المكانة" و"الانتماء"،
اللذين قد يفقدهما، كلّيًّا أو جزئيًّا، إن هو حاول الاستقلال!
وبينما تنأى المجتمعات الغربية،
بحسب الطبيعة الليبرالية نفسها، عن التدخل في شؤون الآخرين، وتلتزم باحترام
خصوصياتهم، فيُترك المرء وشأنُه في خياراته وفِعاله، ما لم يضرّ أحدًا بها، فإن
مجتمعاتنا تشعر دومًا بالمسؤولية تجاه أفرادها، فلا تكاد أن تتركهم وشأنهم أبدًا،
لا في الخيارات ولا في الأفعال، فَتَهُمّ بالتدخل حتى في أدقّ شؤونهم الشخصية، وفي
كثير من الأحيان، دون احترام خصوصياتهم، إمّا بممارسة التقييم والحُكم، بشكل مباشر
أو من خلف أظهرهم، أو بتوجيه الوعظ والإرشاد، أو عن طريق دفعهم دفعًا إلى تصرفات
معينة، بفعل الضغط المجتمعي الهائل الذي يمارسونه عليهم، بِنِيّةٍ أحيانًا -خصوصًا
إذا كان ذلك عن طريق "المجتمع الأصغر"، أي "الأسرة"-، ومن غير
نية في أحيان أخرى -من "المجتمع الأكبر" ومُتطلباته-.
أُطلقت على تلك المجتمعات
الغربية، بفعل كل ذلك، تسمية "المجتمعات الفردية"، بما للفرد فيها من
أولوية على المجتمع، وأهمية محورية. فيما أُطلقت على مجتمعاتنا تسمية
"المجتمعات الجماعية"، بما فيها للجماعة والمجتمع من أولوية على الفرد،
ومحورية.
ورغم كل ذلك -الذي ربما قد بدا
سلبيًّا في نظر كثير منا-، فإن في مجتمعاتنا "الجماعية" خواصًّا
وإيجابيات، يُحسد عليها من قبل بعض أفراد "المجتمعات الفردية". وذلك من
قبيل:
-
التكافل الاجتماعي.
-
الدعم المادّي والمعنوي الذي يتلقاه الفرد -في
أوقات الشدة والفاقة- من قبل مجتمعه -إن هو بقي جزءًا منه فقط، ولم ينسلخ عن
جلدته-.
-
التواصل الاجتماعي الدائم غير المنقطع.
-
شعور المرء بالانتماء، هذا الشعور الذي
يساعده على التكامل والارتقاء كإنسان، ويمده بطاقة من يشعر بأنه جزءٌ من كيان أكبر..
إلخ.
وبما أن مجتمعاتنا، كما ذكرنا،
"مجتمعات جماعية"، فإننا، في هذا المقال، نسلّط الضوء على هذا النوع من
المجتمعات تحديدًا، وعلى نمط علاقته مع الفرد، وكيف قد يؤثر عليه وعلى حياته.
· طبيعة
المجتمعات الجماعية:
عندما نتحدث عن أي مجتمع،
جماعيّ الطبيعة كان أم فرديًّا، يتوجب علينا التمييز بين "المجتمع
الأصغر"، الذي يتمثل بـ"الأسرة" التي يتربى المرء في كنفها،
و"المجتمع الأكبر"، الذي يتمثل بمجتمع القرية أو المدينة التي تعيش
الأسرة فيها.
ولكي نفهم طبيعة علاقة الفرد
بالمجتمع، علينا أن نفهم أولا طبيعة علاقته بـ"المجتمع الأصغر"، ومن ثم
أن نفهم علاقته بـ"المجتمع الأكبر".
1.
الفرد و"المجتمع الأصغر" (الأسرة):
ثمة فرق شاسع بين علاقة الفرد بالأسرة في
المجتمعات الغربية، وعلاقته بالأسرة في المجتمعات العربية-الإسلامية.
في المجتمعات الغربية، تُنشئ
الأسر أولادها على طرقها الخاصة، وحسب أديانها ومذاهبها الخاصة أيضًا، حالها في
ذلك حال المجتمعات الأخرى. لكنّ الأمر يتغير تمامًا عند وصول الأبناء إلى مرحلة
معينة من أعمارهم، وغالبًا ما تكون هذه المرحلة هي بعد التخرج من المدارس
الثانوية، قبيل الالتحاق بالدراسة الجامعية، حيث يترك الأولاد أسرهم غالبًا،
ويبدأون رحلتهم في الاستقلال المادّي والشخصي.
قد يدفعهم إلى ذلك بُعد
الجامعات التي يتطلعون إليها جغرافيًّا عن أماكن سكنهم، أو مجرد رغبتهم في
الاستقلال والاعتماد على أنفسهم، وإنهاء الوصاية الأبوية عليهم، أو مزيج بين هذا
وذاك.
نعم، قد يدعم الوالدان أولادهم
ماديًّا أثناء الدراسة الجامعية، ولكنّ الفرد نفسه يبدأ في الاستقلال تدريجيًّا، في
هذه المجتمعات، مع وصوله إلى هذه المرحلة العمرية، فيقرر ما يشاء، ويفعل ما يشاء،
دون كثير اكتراث بما قد تكون ردة فعل والديه، أو كم يبلغ مدى رضاهما من عدمه عليه،
وبطبيعة الحال، دون اكتراث كبير بالمجتمع أيضًا، وبالأحكام التي قد يطلقها عليه!
يختلف الأمر تمامًا في
مجتمعاتنا، حيث لا يتوقف اعتماد الولد على أبويه -مادّيًّا- أبدًا، حتى مع بدء
الدراسة الجامعية، إلا إذا تمتع ببعثة أو منحة سخية، تضمن له القدرة على
الاستقلال. وإن لم يتمتع بذلك، وبحكم عوامل دينية وعُرفية مجتمعية أيضًا، فإنه لا
يُمنح الاستقلال، ويبقى مقيّدًا خاضعًا لرغبات والديه، ربما حتى بعد انتهاء
الدراسة الجامعية أيضًا، وحصوله على الوظيفة، واستقلاله ماديًّا!
طبقًا لذلك، فإن الاستقلال
المادي لا يشكل عاملًا حاسم الأهمية -في مجتمعاتنا- في تحديد إمكانية الاستقلال من
عدمها. إنها الهيبة الأبوية التي يمحضها الدين والعرفُ للأبوين هي التي تبسط
الهيمنة وتفرض القيد على الأبناء، حتى بعد الحصول على الاستقلال المادي.
مع ذلك، لا تخلو المجتمعات من
المتمردين. إذ ثمة من تدفعه نزعته إلى التمرد إلى التجرؤ على فعل ذلك، رغم اعتماده
على والديه ماديًّا، أثناء الدراسة الجامعية أو غيرها، وقد يشجعه على ذلك البعدُ
الجغرافي عنهما -إن كان هو يدرس في مكان بعيد جغرافيًّا عن مكان سكن والديه
الأصلي-، وقد يكون قاطنًا مع والديه أيضًا، ويتمرد مع ذلك.
وثمة من يتأخر تمرده إلى ما بعد
الحصول على الاستقلال المادي، حيث يعتمد على نفسه، ومن ثم يتجرأ على محاولة انتزاع
استقلاله، والتخلص من قيوده التي فرضها عليه الاعتماد على الأبوين، والدينُ،
والعرفُ المجتمعي.
أما ما يستتبع ذلك التمرد، من
إمكانية إبقاء التمرد محدود النطاق (أي محصورًا على التمرد على المجتمع
"الأسريّ" الأصغر)، أو أخذه إلى نطاق أبعد حيث يتسع ليكون تمردًا حتى
على "المجتمع الأكبر"، فهذا ما سندرسه لاحقًا، مع تناولنا علاقة الفرد
بالمجتمع الأكبر.
ولكن، وبشكل عام، بسبب العواقب
الوخيمة للتمرد، سواءً كان ذلك تمردًا محدود النطاق أو مُتّسِعَه، فإن الخاضعين
-الذين يتخذون الطريق الأسهل للحياة- هم أكثر بمراحل من المتمردين، الذين يتخذون
الطريق الأصعب للحياة. وبطبيعة الحال، فإن التمرد محدود النطاق هو أخف وطأة بكثير
على الفرد، من ناحية العواقب على الأقل، من التمرد واسع النطاق.
هذا على صعيد علاقة الفرد
بالأسرة عمومًا. وأما إذا شئنا الدخول في تفاصيل أكثر، والتدقيق في طبيعة العلاقة
بين الولد والأبوين، والفرق فيها بين الشرق والغرب، فإن الأسرة الغربية تتبع أسلوب
الحوار مع الأبناء غالبًا، خصوصًا بحكم طبيعة المجتمع والدولة الغربية، وبحكم
الاستقلال الذي يعلم الأبوان غالبًا أن الولد سيصل إليه، فيُتّخذ أسلوب الإقناع
والأخذ والردّ بينهما وبينه، لا أسلوب الأمر الذي من الواجب المطلق على الولد
اتباعه.
يختلف ذلك تمامًا أيضًا عن
مجتمعاتنا الشرقية، الذي يتخذ فيه الوالدان غالبًا دور المُقدّس الذي يُسمع ولا
يتوجب عليه أن يَسمع، الذي يأمر ولا يتوقع إلا أن يُطاع، والذي ينهى ولا يتوقع إلا
التنفيذ والاتباع. نعم، ثمة عدد من الأسر المنفتحة في مجتمعاتنا، التي تتبع
الأسلوب الموصوف في الفقرة السابقة، الذي يُتّبع فيه أسلوب الحوار والإقناع وترك
الخيارات مفتوحة للأولاد. ولكن النمط العام في مجتمعاتنا، هو نمط الوالدين
المقدّسين اللذين لا يُردّان، والولد المطيع، والابنة الخاضعة بالطبع.
2.
الفرد و"المجتمع الأكبر":
أما علاقة الفرد بمجتمعه الأكبر، فهي قد تكون
أكثر تعقيدًا!
كما ذكرنا سابقًا، فإن
المجتمعات الجماعية تشعر بمسؤولية تجاه أفرادها. ولكي تضمن الأسرة لأبنائها
المقبولية والانتماء المجتمعي، فإنها تربيهم حسب المعايير المتوقعة من قبل المجتمع.
هكذا، يكبر الفرد ليصبح فردًا "مجتمعيًّا" مثاليًّا، يلتزم بدين ومذهب
المجتمع، وأعرافه، ومقتضياته، ومتطلباته. في المقابل، يحتضنه المجتمع، ويمده
بالتقدير والاعتراف اللذين هما من الحاجات الإنسانية حسب هرم ماسلو، ويضمن له
الدعم المادي إن هو احتاج إليه، والدعم المعنوي متى ما احتاجه أيضًا.
ولكن المرء، إن شاء التمرد على
المجتمع، فإن العواقب وخيمة جدًّا!
في سياق تفريقنا بين
"التمرد محدود النطاق"، الذي عرّفناه بـ"التمرد على المجتمع الأصغر
المتمثل بالأسرة"، وبين "التمرد واسع النطاق"، الذي عرّفناه بأنه
"التمرد على المجتمع الأكبر عمومًا"، بيّنّا بأن عواقب التمرد محدود
النطاق هي أخفّ وطأةً على الفرد من عواقب التمرد واسع النطاق. ولتوضيح ذلك، نقول:
حين يقوم المرء بتمرد محدود النطاق على أسرته، فإنه، رغم الحساسيات التي قد تنشأ
بينه وبين أبويه أو أفراد أسرته جميعًا، فإن "النبذ" الذي قد يتعرض إليه
يكون محدودًا ومحصورًا في تلك الدائرة الضيقة، بل ولقد يكون مؤقتًا زمنيًّا أيضًا،
حتى يزول الغضب الناجم عن ردة الفعل الطبيعية، ثم قد تعود المياه لمجاريها وتعود
الأسرة لاحتضان المتمرد رغم تمرده.
أما في التمرد واسع النطاق، حيث
يتجرأ المرء على تحدّي الوصاية المجتمعية، فيفعل "علنًا" ما يثير
سخط المجتمع، أيًّا كان ذلك، ويقدّم حريته واستقلاله على وداعة المجتمع واستقراره،
فيثير عواصف ضدّ المجتمع، ويحرّض -ضمنيًا، من خلال سلوكياته، أو بشكل صريح، من
خلال الحث الصريح- على الاستقلال عن المجتمع، أو، وهو الأسوأ، حين يقوم بانتقاد
المجتمع وإبراز سلبياته وفضح عيوبه، أو بانتقاد اعتقاداته وممارساته، فإنه يفتح
على نفسه أبواب الجحيم!
هنا، لا يعود التمرد
"محدود النطاق"، ولا تعود عواقبه، بطبيعة الحال، "محدودة
النطاق" أيضًا! فإن الغضب المجتمعي يصبح عارمًا، وقد تتطرف ردة الفعل حتى
تبلغ "النبذ الاجتماعي التام"، و"المقاطعة الاجتماعية"،
وإسقاط الاعتراف بالمتمرد أنه "فرد من الجماعة والمجتمع"، ليُصنّف ضمن
"المنبوذين". لا يعود الاعتراف بالفرد المتمرد علنًا خيارًا لدى
المجتمع، بل إنه يفقد الانتماء، بل وقد يفقد حتى التقدير، وفي كل ذلك من خطورة ما
فيه.
قد يتسامح المجتمع مع المتمرد،
إن هو أبقى تمرده بينه وبين نفسه فلم يظهره ولم يجاهر به، ولم يعبر عنه، ولم يبشر
به. وهذا ما كان خيارًا لدى سبينوزا قبل أن تلعنه الجماعة اليهودية وتعلن عليه
"الحرم". ولكن المتمرد سبينوزا أبى ذلك، وأبى إلا أن يعبر عن ذاته، فما
كان من جماعته إلا أن نبذته وأعلنت عليه اللعنات المغلظة والحرم. فها هو فريدريك
لونوار، في كتابه "المعجزة السبينوزية"، يقول: "كانت السلطات
الدينية قد عرضت عليه مرتبا سنويا مقابل تظاهره باتباع الطقوس وعدم نشره أفكاره
الفلسفية"، ولكنه، بحسب "بايل" كما ينقل عنه "لونوار":
"إنه لم يكن قادرًا على الاستسلام لهذا النفاق"! ولقد دفع سبينوزا ثمن
تمرده الشامل هذا باهظًا!
"إن شئت أن تتمرد، فتمرد..
لا مشكلة! ولكن أبقِ تمردك لنفسك! إياك ثم إياك أن تظهر أي نوع من أنواع التمرد
علنًا! أنت بذلك تعلن الحرب على المجتمع.. ولذلك، فلن يمكننا التسامح معك إن أنت
فعلت ذلك!". هذه هي، باختصار، لهجة المجتمع مع الفرد المتمرد. فإن هو اختار
التمرد العلني، فلن يكون عليه سوى مواجهة عواقب ذلك، مهما كانت وخيمة! وإن هو
اختار التمرد الهادئ، فقد يكون قادرًا على التعايش مع المجتمع وإبقاء انتمائه إليه
والمحافظة على تقديره بين الآخرين.
·
تبعات إخضاع وخضوع الفرد:
أما وقد درسنا ما يحدث للمتمرد
في المجتمع الجماعي، فلربما يجدر بنا الآن أن ندرس ما يحدث للفرد الخاضع فيه.
ولكن، قبل أن نخوض في ذلك، ثمة مقدمتان أساسيتان يجب علينا توضيحهما:
-
في المجتمعات الجماعية، غالبًا ما تكون
الأسرة عينَ المجتمع على الفرد، والشرطيَّ الذي يكافح "الشغب الفرديَّ"
نيابةً عن المجتمع. فهي غالبًا ما تتصدى للفرد المتمرد، وتحاول أن توقفه عند حدّه،
بمختلف الطرق والأساليب، لتحافظ على صورتها وسمعتها كـ"أسرة من
المجتمع". خير مثال على ذلك مثال النبي محمد، الذي تمرد على المجتمع المكي،
فتصدى له عمه أبو لهب، على سبيل المثال، أكثر من أي أحد آخر، حتى نزلت على النبي
سورة تهجوه لكثرة ما آذى النبي! وقد تستعمل الأسرة الأساليب الناعمة لإيقاف الفرد
المتمرد واحتوائه، كالغضب الأبوي أو الأمومي، أو المقاطعة، وقد تلجأ في بعض
الأحيان الأخرى لأساليب هي أكثر عنفًا، لتحقيق هذه الغاية، وللحفاظ على صورة وسمعة
الأسرة بأنها "أحسنت تربية أولادها".
-
كما بيَّنَّا نوعي المتمردين -المتمردين على
نطاق محدود، والمتمردين على نطاق واسع-، وتناولنا ما يحدث لكل منهما، يجدر بنا
التنويه أيضًا إلى أنه ثمة نوعان من الأفراد الخاضعين:
أ. أولئك الذين
ليست لديهم نزعة إلى التمرد أصلا، ويناسبهم الخضوع بمقتضى ذلك، بل ويكون في
مصلحتهم إلى حد كبير، إذ هو يضمن لهم كل ما يحتاجونه من المجتمعين الأصغر والأكبر،
فيخضعون ويرتضون الخضوع ويبتهجون به. وهؤلاء هم الأكثرية غالبًا.
ب. أولئك الذين لهم نزعة للتمرد، ولهم تفرّدٌ شخصي،
واختلافات شخصية أو فكرية أو دينية أو ثقافية أو أيديولوجية مع المجتمع، ومع ذلك
فإنهم يخضعون بشكل شبه كلّيٍّ للمجتمع الأصغر والأكبر. وهؤلاء، يحكمون على أنفسهم
بأنفسهم بالتعاسة، وتترتب على إخضاعهم وخضوعهم مفاسد كبيرة. وهكذا حال غالبية
المتمردين.
أما وقد قيل ذلك، فقد حان الوقت لمناقشة
تبعات "الإخضاع والخضوع" بالنسبة للنوع الثاني:
1.
أوّلًا: فقدان الاستقلالية والتفرّد الشخصي:
إن المتمرد الذي يرتضي الخضوع، ولا يحاول
انتزاع استقلاليته ممن يحتكرها ويقيدها، ينحدر شيئًا فشيئًا إلى فقدان تفرّده،
وتُروّض كل نزعة من نوازع التمرد لديه، أو تُقمع، وهو لا يقاوم ذلك. والمحصلة:
تكوين فرد ضعيف الشخصية مهزوزها، فاقد للاستقلالية، تابع لا متبوع، لا يملك من
زمام أمره شيئًا إلا بما يؤمر به من أبويه أو مجتمعه.
2.
اضطرار المتمرد الخاضع إلى فعل ما يعارض
رغباته ومبادئه وأفكاره، ما يقوده في المحصلة إلى التعاسة وإفساد حياة الذات والآخرين:
لنضرب مثلًا: ثمة شخص من معارفي ممن هم ليسوا
أهلًا للزواج، لما في طبيعتهم من طيش واستهتار وانعدام للمسؤولية (وأرجو ألّا
تضايقه هذه الكلمات عندما يقرأها، إذ هو سيعرف نفسه، ويعلم أنه قال عن نفسه هذا
الكلام نفسه!)، ومع ذلك، أصرّ عليه أهله أن يتزوج، من باب المثل الرائج
"زوّجوه يعقل!". ولكنه، عندما تزوج، فإنه لم يعقل بل زاد استهتارًا،
وانتهى به الأمر بأن أفسد حياته الشخصية، وأفسد حياة الفتاة التي تزوجها إذ لم يكن
بحجم مسؤولية الزواج منها، إلى أن تطلقا، بعد إنجاب طفلة رائعة الجمال، تعاني
حاليًّا من التفكك الأسري!
هذا شيء مما يحدث فقط، لأولئك
الذين يضطرون لفعل ما يعارض رغباتهم اضطرارًا، فقط لإرضاء الأسرة أو المجتمع،
والأمثلة المشابهة كثيرة!
للتماهي مع المجتمع، ولكي يصبح
الفرد جزءًا حقيقيًّا مُعترفًا به منه، كثيرًا ما يتطلب ذلك تطويع النفس المتمردة،
وكبح جماحها، وفعل ما يتوقعه المجتمع، لئلا تلهج الألسنة بشأن من لا يفعل ذلك بأنه
مختلف أو متمرد. ولئن سعى المرء لإرضاء المجتمع قولًا وفعلًا، حتى وإن تضمن ذلك
فعل ما هو غير مقتنع به، فإن مغبة ذلك تكمن في إفساد حياة الفرد نفسه، وحيوات من
قد يرتبط بهم أيضًا!
3.
فرض حالة عامة من النفاق الفردي والمجتمعي:
رغم أن الفرد يُروّض، شيئًا فشيئًا، إن هو
سلك درب الخضوع للمجتمعين الأصغر والأكبر، إلا أن ما كان في قلبه ونفسه من تمرد
سابقًا، لا يمكنه أن يفارقه بكل بساطة. بل إنه يظلّ يعتمل في السرائر ويُطبخ على
نيران هادئة إلى حين. ولكنه، مع ذلك، بحكم خضوعه، فإنه يتصرف وكأنه لا يخفي شيئًا.
وبالمقابل، فإن المجتمع يمحضه الاعتراف والتقدير. ولكن هذه العلاقة التبادلية بين
الفرد والمجتمع، في صميم طبيعتها، في هذه الحالة، قائمة على النفاق بشكل أساسي، إذ
إن الفرد يُبطن خلاف ما يُظهر، وفي هذا ما فيه من مفاسد يعرفها الجميع، أولها أن
المجتمع بأكمله قد يكون منافقًا، وأسوأها شيوع المشاكل الأسرية وغيرها بفعل النفاق
العام!
4.
قمع المبدعين والمجددين الأحرار للإبقاء على
حالة الاستقرار المجتمعي:
لا يخفى عليكم بأن جميع المجددين
والمصلحين والمبدعين والمؤثرين تقريبًا، قد كانوا متمردين على حضاراتهم وثقافاتهم،
وذلك يشمل الأنبياء والأوصياء تمامًا كما يشمل الفلاسفة والعلماء. ولا يخفى عليكم
بأن الغالبية الساحقة من هؤلاء قد تعرضت للقمع والتنكيل من قبل المجتمعات الرافضة
للتغيير، حتى وإن كانت في التغيير منافع إليهم.
الإبداع غالبًا ما يكون فرديًّا
بطبيعته، وأفرادٌ هم أولئك الذين ينهضون بالمجتمعات فيقيمون الثورات العلمية أو
الفكرية أو حتى الدينية والسياسية! أما الجماعات فهي عامل الاستقرار ومقاومة
التغيير.
والبعض يرجّح بأن الغرب تقدّمَ
ووصل إلى كل ما وصل إليه في يومنا هذا، بفعل إعلائه من شأن الفرد وحريته وإبداعه لا
من شأن المجتمع ووداعته واستقراره! وإذا سلمنا بصحة ذلك، فإن مجتمعاتنا التي تقهر
المبدعين وروّاد التغيير، تُجري حدّ السيف على رقاب أمّتها نفسها، إذ هي تمنع
الإبداع والتغيير عنها.
·
الخلاصة:
كما رأينا، فإن للمجتمعات الجماعية إيجابيات
ولها سلبيات. ولكنّ الأضرار المترتبة على السلبيات، والتي من أهمها إفساد حياة
الأفراد وحيوات الآخرين، بالإضافة إلى النفاق المجتمعي الذي له ما له من مفاسد، هي
أشدّ كارثية، ولا يمكن لحسنات المجتمعات الجماعية أن ترجحها.
ولا يكمن الحلّ في التطرف
لإقامة مجتمع فردي متطرف، تُهدم فيه العلاقات الأسرية والأواصر المجتمعية.. أبدًا!
وإنما يكمن الحل في توعية
المجتمع بأهمية السماح للفرد بهامش من الحرية، على الأقل بعد أن يبلغ سن الرشد،
وترك خياراته وقراراته إليه بدلًا من التحكم به وتطويق عنقه بحبل وجرس! وإن رُفِضَ
ذلك، فلا بأس بتمرد خفيف، لا يهتك القرابة والعلاقات الأسرية والمجتمعية.
عواقب التمرد الشامل باهظة،
وكذلك هي عواقب الخضوع الشامل!
على المرء أن يكون ذكيًّا في محاولاته
لانتزاع استقلاله الشخصيّ وتفرّده، في الوقت نفسه الذي يحاول فيه اتخاذ الطرق
الوسطى، التي لا تؤدي إلى إفساد حياته. وإذا شاء أن يتخذ طريق التمرد الشامل،
فعليه أن يكون واعيًا تمامًا للعواقب ولمدى خطورتها، وكذلك إذا شاء اتخاذ طريق
الخضوع الشامل.
حسيـــن كــــاظم
7 أبريل 2024م

تعليقات
إرسال تعليق