سياسة الإذلال بين إسرائيل وفلسطين
في لحظة ما من مسلسل "صراع العروش"، تُجبر الملكة "سيرسي لانيستر" على "مشية العار"، تكفيرًا عن عظيم ذنوبها، فيُقصّ شعرها، وتُجرّد من ملابسها، ويُعلن عن هذا العقاب عليها على رؤوس الأشهاد. ومن ثمّ، بحضور الحشود، تُجبر على المشي، في تلك الحالة نفسها، من المعبد، وحتى قصر الحكم، وتمشي وراءها الكاهنة حاملةً جرسًا وهي تقرعه وتُردّد: "عار.. عار.. عار!"، بينما يُمعن الناس في إذلالها، وسبّها، وشتمها، ورميها بالقاذورات.
لاحقًا، عندما تتمكن "سيرسي" من استعادة السلطة، ومن سحب بساطها من تحت أقدام الكهنة، فإنها لا تكتفي بقتل "عصافير الكهنة" وحسب، وإنما تقوم بتفجير المعبد بأكمله، بمن فيه، وتنتقم أيضًا من كل أعدائها الذين أذلّوها، فتنزل عليهم مُختلف أنواع العذاب، وعلى رأسهم "كاهنة الجرس"!
وإذا انتقلنا من عالم المسلسلات والروايات إلى عالم الوقائع والتاريخ، فإن
ألمانيا، التي تعرّضت إلى أشد أنواع الإذلال بعد الحرب العالمية الأولى، على أيدي
الحلفاء -وخصوصًا فرنسا-، انتخبت هتلرَ وأوصلته إلى رأس السلطة (وإن كان ذلك بعد
حوالي خمسة عشر عامًا من انتهاء الحرب العالمية الأولى)، رغم الأيديولوجيا
المتطرفة التي كان يتبناها، والتي كان الشعب الألماني على علم بها. وما هي إلا ستّ
سنوات تقريبًا بعد وصوله إلى السلطة، وبعد أن أعلن نفسه "فوهرر"
لألمانيا -أي قائدًا مُطلقًا يجمع بين الرئاسة والمستشارية-، حتى فجّر هتلرُ
الحربَ العالمية الثانية، فاحتلّ بولندا وتشيكوسلوفاكيا وبلجيكا وفرنسا، بل وحتى
روسيا!
هذا ما يحدث، في معظم الأحيان، بعد أن تتعرض أمّةٌ كاملةٌ إلى الإذلال
المستمر: الغضب، الهيجان، الثورة، بل وحتى الدمار!
في كتابها "سياسة الإذلال"، تتناول الكاتبة الألمانية "أوتا
فريفرت" موضوع الإذلال وآثاره بشكل أساسي. وبعد أن ركّزت، في أول فصلين، على
الإذلال "منطق عقوبات الدولة ونقدها"، والإذلال "المجتمعي والمدرسي
والمؤسساتي"، انتقلت، في الفصل الثالث، إلى دراسة "الإذلال في السياسات
الدولية والعالمية"، وهذا هو ما يعنينا.
في الصفحة 277 من الكتاب، تقول فريفرت: "انتشر (جنون الوطنية) في
نهاية القرن التاسع عشر، وكان نيتشه هو من أطلق هذا الوصف في عام 1885 منتقدًا
المغالاة في المشاعر الوطنية، وأصبحت اللغة المعبرة عن الكرامة متعنتة، وذات حدة
غير مسبوقة، وأصبح لها في الوقت نفسه تأثير واسع على الناس، بعد أن كانت من قبل
قاصرةً على المجال السياسي الخاص بالنخبة وحدها. أصبح الآن كل مواطن ومواطنة
يرى كرامته الشخصية متماهية مع كرامة البلاد، وهو شعور بدأت الصحافة والروابط
القومية تعمل على تقويته، فكل ما يُعدّ إهانة لكرامة البلاد، يفسره المواطنون بأنه
إهانة شخصية لهم".
في الواقع، لا يُلام نيتشه لانتقاده "جنون الوطنية" في لحظته،
حيث كانت فعلًا ثمة مغالاة كبيرة في المشاعر الوطنية. ولكنّ الجملة الأخيرة في
الاقتباس، بالخط الداكن، لا تعدو كونها حقيقة واقعة، حتى يومنا هذا! كل فرد منا
يرى كرامته الشخصية من كرامة وطنه، ويرى أن كل إذلال لوطنه، بأية طريقة كانت، يعني
إذلالًا شخصيًّا له ولشعبه، ومن شأنه أن يفجّر فيه وفي شعبه بأكمله الغضب.
كان الغضبُ، ممتزجًا بالرغبة في استعادة الكرامة المهدورة، هو ما دفع
بسيرسي لانيستر لتحقيق انتقامها الكاسر، وهو نفسه ما دفع بالألمان لانتخاب هتلر
وتنصيبه لمنصب "الفوهرر"، واستعادة "المجد الألماني"، وهو
نفسه الذي أنشأ الكفاح المسلح في كل من: الثورة الجزائرية، والثورة الكوبية، وحركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.. إلخ!
إنها سنة من سنن الحياة، بطريقة ما: إذا تعرض شعبٌ ما للإذلال، وخصوصًا إذا
استمرّ هذا الإذلال لوقت طويل، فإن الثورة حتمية، وقد تصل هذه الثورة إلى
"الكفاح المسلّح" على الأغلب، إذا ما ووجِهَت بالعنف.
لعل ذلك، بطريقة ما، يفسر شيئًا من الحالة الفلسطينية- الإسرائيلية!
طوال
الحرب العالمية الثانية، بل وحتى لعقود قبل ذلك، تعرضّ اليهود الأوروبيون (وخصوصًا
أولئك الذين وقعوا تحت سطوة النازيين منهم)، إلى مختلف أنواع الإذلال والإهانة
والإبادة. ولكنّ الأوروبيين، والغربيين عمومًا، اختاروا التكفير عن ذنبهم تجاه
اليهود، بارتكاب الذنوب والفظائع والإذلال والإبادة في حق شعب آخر: هو الشعب
الفلسطيني، وبالطبع، أعانهم على ذلك "الضحايا" اليهود أنفسهم -أو كثير
منهم على الأقل، كي نتجنب التعميم-، لينشئوا "دولتهم". ولكن الموضوع ليس
حقًّا بهذه البساطة، فهو ليس مجرد تكفير عن الذنب، بل هو أكثر تعقيدًا بكثير من
ذلك، وهذا إيجازه:
نشأت الصهيونية الحديثة في أوروبا، في أوساط معادية لليهود (أو للسامية،
كما يطيب لهم دومًا أن يصفوها)، بين أولئك الأوروبيين الذين كانوا يريدون التخلص
من الوجود اليهودي في أوروبا، منذ قرون! امتزجت هذه الصهيونية أيضًا بنزعة دينية
مسيحانية، تعتقد بأن إنشاء الدولة اليهودية يمهّد لعودة السيد المسيح.
كان
التخلص من الوجود اليهودي في أوروبا سببًا من الأسباب الأساسية في نشأة الصهيونية،
وما كان "التكفير عن الذنب" سوى ذريعة لذلك، تُضاف إليها أيضًا الرغبة
الأوروبية والغربية في تأسيس "دولة وظيفية" -كما أطلق عليها الدكتور
عبدالوهاب المسيري- في الشرق الأوسط. هذه "الدولة الوظيفية"، الغريبة
على المنطقة، وعلى شعوب المنطقة، والآتية بثقافة بعيدة كلّ البعد عن الثقافات التي
تعرفها المنطقة، عملت، وما زالت تعمل، بصفتها حارسًا للمصالح الغربية، ما يفسر
الدعم الهائل الذي تتلقاه من الدول الغربية، إلى جانب وجود جماعات الضغط ذات
النفوذ الهائل في تلك الدول، التي تحاول أن تدفع دومًا السياسيين وصُنّاع القرار
لدعم إسرائيل.
مع
ذلك، فإن التاريخ يشهد، كما يُخبرنا "إيلان بابيه"، في كتابه "عشر
خرافات عن إسرائيل"، بأن الفلسطينيين استقبلوا المهاجرين الأوائل من اليهود
بالترحيب، فعلّموهم كيف يزرعون ويحرثون الأرض، وعملوا معهم، بل ووظفوهم، وحاولوا
دمجهم في مجتمعهم.
ولم
يبدأ الارتياب من اليهود ومن وجودهم في فلسطين، إلا بعد أن تكاثرت موجات هجرتهم
إليها، وبدأت في الظهور بعض الأطباع النزقة والمنفرة منهم، والتي ليس أقلها محاربة
الفلسطينيين في أرزاقهم، ومحاولات إقصائهم وإجلائهم عن أراضيهم، لاستبدالهم
بالمهاجرين اليهود الجدد، القادمين من أوروبا ومن سائر دول العالم!
ومع
قرار التقسيم، ومن ثم قيام إسرائيل، على جثث وأشلاء الفلسطينيين وأطلال بيوتهم
وقراهم التي دُمّرت (ولا يُعد ذلك أقل من إذلال، وإبادة، وتطهير عرقي)، لم يكن ثمة
مفرّ للفلسطينيين سوى المقاومة، وسلوك ما تسلكه كلّ الأمم المُستعمرة والمضطهَدة.
وما دام المُستعمِرُ والمُضطهِدُ صاحب قوة وسلاح، ومدعوم من قبل أكبر القوى
الإمبريالية وقتها، كان الكفاح المسلح هو الخيار الوحيد.
ومنذئذٍ، اختلفت تجليات المقاومة بين العلمانية والإسلامية، منذ منظمة
التحرير الفلسطينية وحتى حركة حماس، ولكن المقاومة الفلسطينية لم تغب، وهذا هو
الطبيعي، ما دام الاضطهاد والإذلال مستمرّين.
وكلّما أمعنت إسرائيل في إذلال الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وبيوتهم
وتراثهم وثقافتهم، وكل ما يمتلكون، بحماية وتدرُّع جيش الدفاع الإسرائيلي، فإن
المقاومة لن تغيب أبدًا. وكلّما أمعنت إسرائيل في قتل جيل من الأجيال، ووأد كل
آماله، فإن جيلًا قادمًا آتٍ لا محالة، سوف يتسلّم الراية من الجيل السابق ويواصل
النضال.
هذا تمامًا ما قلتُه لإسرائيليٍّ كان يتجادل معي شخصيًّا على تطبيق
"الإنستغرام"، قبل شهرين أو ثلاثة، بعد أن قال: "حماس يجب أن
تُدمّر!". ومما قلته أيضًا في معرض ردّي عليه: "هب أنكم دمّرتم حماسَ
فعلًا (وهو أمرٌ لن تقدروا على تحقيقه أبدًا)، فهل تعتقد أنكم، بما تفعلونه في حق
الفلسطينيين من إبادة وسلب ونهب واحتلال وتطهير عرقي، ستقدرون على منع جيل آخر
وآخر بعده من حماس؟ بل إنكم لتؤججون وتعجلون ظهور الجيل اللاحق"!
لم يكن ردُّه سيِّئًا في الواقع! فقد قال، تعقيبًا على إجابتي: "لقد
وجد الألمان طريقةً لصنع وعيش السلام مع أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، بعد
الحرب العالمية الثانية، رغم أن هذه الدول ألحقت بها هزيمة مُذِلّة. وكذلك تمكنت
اليابان من صنع وعيش السلام مع الأمريكان، حتى بعد أن أسقط الأمريكان عليهم
قنبلتين نوويتين، وقتلوا منهم مئات الألوف. لا أرى لماذا تعتقد أن الفلسطينيين لن
يختاروا العيش بسلام معنا في النهاية، رغم كل شيء جرى بيننا! ولا تنسَ أن النازية
هُزِمَت وقُضي عليها، وكما حدث ذلك، فإنه سيحدث أيضًا لحماس: سوف تُهزم، وسوف
يُقضى عليها"!
قد ينطلي هذا الردّ على قارئه لأول وهلة، إذ هو يستشهد بأمثلة تاريخية لا
بأس بها، وفيها من المخادعة ما فيها. ولكن، لن يكون إلا ساذجًا ذلك الذي تنطلي
عليه هذه الحجج كُلِّيًا؛ إذ إن الفارق في السياق كبير، بين هاتين الحالتين اللتين
ذكرهما الإسرائيلي الصهيوني، وبين الحالة الفلسطينية! وهنا التفصيل:
· أوّلًا، فيما
يخص هزيمة النازية: رغم أن الألمان انتخبوا النازيين للسلطة، لكنّ الكثيرين أيضًا
عارضوهم، بل وحاربوهم من الداخل، وحاولوا الانقلاب عليها، بل وحتى اغتيال هتلر،
بفعل تطرف النازيين في العديد من السياسات البوليسية والدكتاتورية. ولا ننسى بأن
أكبر نسبة حصل عليها النازيون في الانتخابات كانت (43.91%)، وهي نسبة كبيرة بالفعل! ولكنها تعني
أيضًا أن 56% من الشعب الألماني لم ينتخبوا هتلر والنازيين! ولا ننسى أيضًا أن
هتلر قد تسبب في "حريق الرايخستاغ"، فقط بعد 4 أسابيع من توليه منصب
المستشار، ومن ثم ألقى باللائمة على الشيوعيين، فقط لأنه لم يحصل على الأغلبية
المطلقة! وإن كان لم يظهر بين 1933-1944 مظهر واضح لمعارضة الشعب الألماني
للنازيين، فإن ذلك لم يكن إلّا بسبب الإرهاب النازي في الداخل الألماني، و"ليلة
السكاكين الطويلة" هي خير مثال، وممارسات قوات الأمن الخاصة (SS) بقيادة هاينرش هملر هي مثال آخر، حيث عملت
على القمع السياسي الشديد، وإبادة المعارضة بمختلف تياراتها، وإدارة معسكرات
الاعتقال، وتنفيذ المحرقة، وإنشاء "الغيستابو" الضليع بالقمع والتعذيب
والتجسس، والتطهير العرقي، بل وحتى إجراء "التجارب" على السجناء وهم
أحياء! هذا وناهيك عن بروباغاندا جوزيف غوبلز ذات التأثير العظيم! كل ذلك، ما كان
من شأنه أن يُظهر المعارضة الألمانية للنازيين بوضوح، ولكن ذلك لا يعني أن تلك
المعارضة لم تكن موجودة، ولا يعني أن الشعب الألماني بأكمله كان مؤيدا لهتلر
وللنازيين!
في
المحصلة: رأت شرائحُ كبرى من الشعب الألماني في النازيين جلّادًا، وحبلًا على
الرقبة، ومُعتديًا، لا حاميًا للشعب الألماني.
الأمر
يختلف، وبوضوح، في فلسطين!
رغم
ما تحاول إسرائيل دومًا فعلَه وترويجَه، من التنصّل من مسؤولية ما تمارسه من قتل
وتدمير على الفلسطينيين، ورمي كل تلك المسؤولية على الضحايا أنفسهم -كما رمى
النازيّون تمامًا مسؤولية جرائمهم تجاه اليهود على اليهود أنفسهم-، إما
"لاختيار حماس للقيادة"، أو "لأن حماس تتخذ من المدنيين دروعًا
بشرية"، أو ما إلى ذلك من أعذار ترمي إلى التهرب من المسؤولية والشعور
بالذنب، فإن المقاومة، بالنسبة للشعب الفلسطيني، أو على الأقل بالنسبة لشريحة
كبيرة منه، هي الحاجز الوحيد بين إسرائيل، وبين اغتصاب أرض فلسطين كلّها!
ماذا
لو لم تكن المقاومة موجودة؟ أما كانت إسرائيل، باستفزازاتها المتواصلة، والاستيطان،
والتطهير العرقي، والإبادة، قد ابتعلت فلسطين بأكملها؟
لا
يُنكر أن لحماس العديد من السياسات الخاطئة، في الداخل الغزّاوي، والتي قد لا يتفق
عليها الجميع، والتي قد تضايق البعض، وفيها ما فيها من عيوب. ولكنّها، على العكس
من النازية بالنسبة للألمان، تلعب دور "الحامي" لا "المعتدي"
بالنسبة للفلسطينيين، من النزعة التوسعية الإبادية لإسرائيل! هذا إلى جانب أن
المقاومة تشكّل ملجاً لكل مثكولٍ وطالبٍ بالثأر من إسرائيل، التي لم تدع بيتًا في
غزة، وربما في فلسطين بأسرها، دون أن توقع منه شهيدًا أو أسيرًا. لذلك، فإن حماس،
رغم كل عيوبها التي قد يُعدّدها معارضوها، فإنها محلّ تأييد أكثر من كونها محلّ
معارضة!
والأهم من هذا وذاك، أن إسرائيل تشكّل "عدوًّا خارجيًّا واضحًا وذا
أثرٍ تدميريٍّ ملموسٍ" بالنسبة للفلسطينيين، وهذا يشكل عامل توحيدٍ كبيرٍ للفلسطينيين،
باختلاف تياراتهم، ضد إسرائيل. في المقابل، فإنه لم يكن ثمة مثل ذلك العدوّ
بالنسبة للشعب الألماني، كي يتوحدوا جميعًا ضده! حاول النازيون توحيد الجبهة
الداخلية الألمانية، بتخويف الشعب الألماني من البعبع اليهودي، والبعبع الشيوعي،
والسوفييتي، وغير ذلك، ولكن لم يكن ثمة من أثر تدميري ملموس لأي من هؤلاء بالنسبة
للشعب الألماني، كي يتوحدوا ضده مع النازيين، وهذا دفع بجوزيف غوبلز وعصبته، بل
وحتى هملر وعصبته من قوات الأمن الخاصة، لاختلاق مسرحيات كبرى، وإن كانت مفضوحة، لشرعنة
العدوان الهتلري، كما في "حادثة غلايفيتز" التي استُعملت لشرعنة
الاحتلال النازي لبولندا!
ولكن، في الداخل الألماني، لم يكن ثمة أثر تدميري ملموس لعدو خارجي بالنسبة
للشعب الألماني، كي يتوحد الألمان مع النازيين ضده. وهذا على العكس من الشعب الفلسطيني
الذي يعاني، في كل يوم، وفي كل ساعة، من الآثار التدميرية لإسرائيل، سواءً من
حكومتها، أو من جيشها، أو من "مستوطنيها"، أو منهم جميعًا!
· ثانيًا، فيما
يخصّ التعايش الألماني والياباني مع المنتصرين بعد الهزيمة: ثمة فارقٌ أساسي وكبير
في التعامل الغربي مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية!
كان
الحلفاء قد تعلّموا درسهم جيِّدًا بعد الحرب العالمية الثانية، وبكلمات أوتا
فريفرت: "اعترفت الاتفاقيات الدولية منذ ذلك الحين بحماية الكرامة الإنسانية،
وبالاحترام المتبادل، واستندت العلاقات الدولية الثنائية، أو العلاقات متعددة
الأطراف في الهيئات الدولية التي أُنشِئَت حديثًا إلى (أساس المساواة المطلقة بين
الدول). كان هذا الشرط مُعلنًا على أية حال في ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945.
تضمّن هذا الشرط نبذ العنف العسكري والجسدي، كما تضمن أيضًا التخلي عن الممارسات
التي تؤكد على الإذلال وتبرزه". وأقول: أين ذلك من الإصرار الإسرائيليّ
المستمرّ على إذلال فلسطين والفلسطينيين؟
على
العكس من دول الحلفاء، فإن إسرائيل لم تتعلم شيئًا من دروس ما بين الحربين
العالميتين. ولذلك، فإنها كانت، وما زالت، تمعن في اتباع "سياسات فرساي"
المذلة والمهينة تجاه الفلسطينيين، وكان ذلك منذ اليوم الأول من قيامها، وحتى
يومنا هذا (إذ هي استولت على 78% من فلسطين عام 1948، رغم أن قرار التقسيم
"المجحف أصلًا" محضها 56% تقريبًا منها، واستمرت بعد ذلك في التوسع، وهي
ما تزال تسعى للتوسع حتى تستولي على فلسطين التاريخية كلها، من النهر إلى البحر)!
لم
يصر الحلفاء على إذلال الألمان واليابانيين، وإجلائهم وإقصائهم عن بلادهم
وأراضيهم، وتطهيرهم عرقيًّا، بعد الحرب العالمية الثانية. والدرس الذي تعلموه من
بعد الحرب العالمية قد أتى مفعوله، فلم يُذلوا الأمم المهزومة، بل مدوا لها يد
العون والمساعدة (وإن اختلفت نسب ذلك في حالة الانقسام الألماني بين ألمانيا
الشرقية والغربية، تحت المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي)، كي تتمكن من الوقوف على
أرجلها. ولذلك، فقد تمكنت الأمم المهزومة من التعايش مع النظام العالمي الجديد،
والوقوف على أقدامها فعلًا، وهذا على العكس تمامًا من الإصرار الإسرائيلي المستمر على
إذلال فلسطين والفلسطينيين، الأمر الذي لن يأتي سوى بالثورات المستمرة، والمزيد من
الكفاح المسلح!
ذلك
أمر حتمي! لا مفرّ منه ولا تغيير على حقيقته، إلا إذا غيّرت إسرائيل سياساتها،
وانتقلت من "سياسات فرساي"، إلى سياسات "ما بعد الحرب العالمية
الثانية"!
تعليقات
إرسال تعليق