مثقفون لا أهمية لهم!
ما لم تكن الثقافة ذات صلة بالمجتمع وقضاياه، فإن تأثيرها شبه معدوم. وما لم
يكن المثقفون على وعي واهتمام بالمجتمع وقضاياه، فإنهم "مثقفون لا أهمية
لهم"!
تعيش
الثقافة، في البحرين خصوصًا، وفي سائر أقطار العالم العربي عمومًا -إلا ما ندر-،
أزمة انفصال شبه كلي عن الواقع، والغرق في "عوالم موازية" لا علاقة لها
بما يعيشه عالمنا المعاصر من كوارث وأزمات.
إذا قلصنا نطاق التركيز، من العالم العربي بأكمله، إلى البحرين بمفردها، فإننا
نجد فجوة كبيرةً بين التيار الديني، المهيمن على الجماهير البحرينية هيمنةً كبيرة،
وبين أولئك الذين يُحسَبون، أو يحسِبون أنفسهم، على المثقفين.
والمثقفون، بدورهم، وإن كان في ذلك شيء من التعميم، على ثلاثة أصناف:
1.
التصادميّون: وهم أولئك الذين يضعون أنفسهم في موضع
التصادم المباشر، والمواجهة القاسية، مع التيار المتدين، فيضربون بكلّ ما يتبناه
التيار المتدين من وجهات نظر ورؤى عرض الحائط، ويفتعلون، قصدًا وعلنًا، الصراع مع
التيار المتدين.
وهؤلاء، رغم ما قد يكون لهم من تأثير على أفراد محددين في المجتمع قد يندفعون،
بفعل تصادمية هذا الشق من المثقفين، إلى مراجعة بعض المسلمات ووجهات النظر التي
فرضتها عليهم طبيعة مجتمعهم المتدين، فإن هؤلاء المثقفين، في الغالب، يكونون
مكروهين، منبوذين، وقد ينتهي بهم الأمر إلى التعرض للإقصاء شبه الكلّي من المجتمع.
وعندئذٍ، فإن "تأثيرهم" المبدئي المزعوم، سوف يُحدّ إلى أدنى مستوياته
على الإطلاق، بل، وأكثر من ذلك، فإن التيار المتدين المهيمن سوف يطوّر مناعةً ضدّهم
وضدّ أساليبهم التصادمية، وسوف يعزز بذلك هيمنته على الجماهير. بل وإن هذه
الجماهير نفسها، التي يتقصد هذا الشقُّ من المثقفين التصادمَ معها، سوف تطوّر
مناعةً ضدّه، وسوف تشعر بالتهديد منه ومن طرحه وأسلوبه، ولسوف تتمسك أكثر بوجهات
نظرها ورؤاها التقليدية.
نذكر، على سبيل المثال، كاتبًا بحرينيًّا، يتعمّد استفزاز المجتمع،
وإغضابه، والضربَ في مسلّماته الدينية والسياسية، على منصة "X/ Twitter"، ليلًا ونهارًا، إلى أن كرهته الغالبية
العظمى من أبناء مجتمعه، وطوّرت مناعةً ضده وضدّ كل ما يطرحه، ووصفته بالتملّق،
وحبّ الظهور، وجنون التعطّش إلى جذب الانتباه، بأي ثمن، حتى وإن كان هذا الثمن كراهية
العموم له ولمجرد رؤية وجهه أو حسابه!
وما يُستخلص من ذلك، هو أن هذا الأسلوب غير فعّال، ولن يجلب إلى صاحبه، وإلى متبنياته من رؤى وأفكار، إلا النبذَ والاحتقار!
2.
المهادنون: والمقصود بهم أولئك الذين هم على الضدّ
تمامًا من الصنف الأول الذي ذكرناه من المثقفين، فلا يكادون ينتقدون شيئًا من
مجتمعاتهم إلا لمامًا. بل، وأكثر من ذلك، فإنهم يدافعون عن التيار العامّ وعن وجهات
النظر التقليدية فيه دفاعًا مستميتًا، ويوظفون ثقافتهم في سبيل ذلك، فتجدهم يبررون
عيوب مجتمعهم وعيوب التيار المهيمن فيه، بإبراز عيوب المجتمعات الأخرى، والادعاء
بأفضلية مجتمعه عليها، وكأنه يقول: "لا بأس بكل ما نعانيه من عيوب، لأننا
أفضل من المجتمعات الأخرى"!
يلقى هذا الصنف من المثقفين تقبّلًا وقبولًا من قبل التيار المهيمن، وتُسمع
كلماته من قِبَله غالبًا، ويُحتجّ بأقواله على المخالفين.
هل هذا النوع من المثقفين، وكلّ ما يقدّمونه، صحّيٌّ أصلًا؟
رغم ما في الأمر من إغواء، أن تكون مسموع الكلمة، ومُحترمًا من قِبَل قومك،
إلا أن هذا الدور الذي قد تلعبه كمثقف، مُدمّرٌ غير مُعمّر!
ليس دور المثقف أن يطبطب على قومه، ولا أن يبرر عيوبه وينافح دفاعًا عنها!
وحتمًا ليس دوره أيضًا أن يتصادم مع المجتمع بالطريقة الغبية والساذجة الموصوفة
أعلاه!
يكمن خطر هذا النوع من المثقفين في كونه، وكون كلّ ما يقدّمه من طرح،
عاملًا في تعزيز مثالب المجتمع، وتبريرها، وتطبيعها. وبذلك، بدلًا من أن يكون
"المثقف" دافعًا للمجتمع إلى الأمام، فإنه يمسي عاملًا في سحبه إلى
الخلف، وفي تدعيم رجعيته!
مؤخرًا، وبعد نشر فيلم "حياة الماعز" الذي يناقش عنصرية العرب ضد
الآسيويين، وتحديدًا الهنود (وهو فيلم مبنيٌّ على قصة حقيقية)، هبّ عددٌ كبيرٌ من
مثقفي العالم العربي للدفاع. وفي الواقع، لا ننفي أنه ثمة مبالغات في الفيلم، وأنه
أظهر العربَ، على وجه العموم، أنهم شديدو العنصرية والنذالة، ويحقّ لنا انتقاد هذه
المبالغات. ولكن.. لا يحق لنا أن ننفي وجود هذه العنصرية فينا! وحتمًا لا يحقّ
لنا أن نبرر هذه العنصرية، بأن نبرز العنصرية ضد المسلمين في الهند! وهذا ما فعله
عدد كبير من مثقفي العالم العربي، حينما نفوا وجود هذه العنصرية فينا نحن العرب، بل
وبرروا هذا النفي بإبراز العنصرية الهندية ضد المسلمين!
وتجنّبًا للفتن، لن أذكر أمثلة على هذا النوع من المثقفين في البحرين وما يفعلون.
3.
عديمو الصلة بالواقع: وهم أولئك المثقفين الذين وصفناهم بأنهم
يعيشون في "عوالم موازية"، لا علاقة لها بالعالم الواقعي.. فتراهم
يناقشون كلّ شيء، من الروايات إلى الشعر والفلسفة والتيارات الفلسفية، وما إلى
ذلك، بينما يبتعدون عن مناقشة كل ما هو مهم وذي صلة بالواقع، إما خوفًا من المجتمع،
أو خوفًا من السلطة، أو منهما كليهما، أو عدمَ رغبةٍ واهتمامٍ أصلًا بالاقتراب من
الواقع!
وهذا
النوع من المثقفين لا يقلّ سوءًا عن النوعين السابقين، إذ هو يخلق حاجزًا كبيرًا
بين المجتمع وبين القطاع الثقافي، فيراهم المجتمع وهم في "أبراجهم العاجيّة"
-بتعبير علي الوردي-، وهم يناقشون مختلف أنواع الأدب وتيارات الفلسفة، وكلّ ما
فيها من أسماء معقدة ومستغلقة على العقول والأفهام، ولا علاقة لهم بعالمهم الواقعي
وما يعيشه من أزمات!
والمعضلة أن هذه العدوى السامة انتقلت حتى إلى المؤسسات الثقافية أو
المحسوبة على الثقافة، سواءً كانت رسميةً أو غير رسمية. وبعد أن كانت هذه المؤسسات
تطرح مواضيع متعلقة بالواقع، ومواضيع كانت تحرك المياه الراكدة في المجتمع، وتدفعه
إلى التفكير والحراك الفكري عمومًا، فإنها أمست أيضًا عديمة الصلة بالواقع، ولا تطرح
إلا ما هو بعيد كل البعد عن الواقع، ولا تكاد تقترب من الواقع أبدًا، إلا بخجل!
ولذلك، فإنه لا تأثير ولا دور لهم، إلا الإسهام في إبعاد الناس أكثر عنهم وعن "عوالمهم الموازية"!
v الخلاصة:
من
بين هذه الأصناف الثلاثة للمثقفين، تتضح لنا حقيقة واحدة: هؤلاء المثقفون جميعًا
لا أهمية لهم (insignificant)، ولا صلة لهم بالواقع أيضًا (irrelevant)!
فالصنف الأول يدقّ إسفينًا بينه وبين الواقع بتصادميته، والصنف الثاني يبرر
العيوب فيعزز الرجعية، والصنف الثالث رابضٌ في "أبراجه العاجيّة"!
وثمة منقصة كبيرة أيضًا، مضحكة مبكية، في مجتمعات المثقفين وأوساطهم، يجدر
بنا أن نشير إليها هنا، تتمثل في المجاملات المفرطة لبعضهم البعض إن كانوا منتمين
لنفس المؤسسة أو التيار، أو في المشاحنات والتحاملات والتحزبات المضحكة بين بعضهم
البعض، فترى فلانًا، المحسوب على المؤسسة الفلانية، يكره -على الأقل- أفرادًا من
المحسوبين على مؤسسات أخرى، وقد يُفرط في توجيه سهام نقده إليهم، حتى وإن كان في ذلك
تجنيًّا، بينما يداهن المحسوبين على نفس مؤسسته أو تياره!
بينما المثقف الحقيقي، الذي ينأى بنفسه عن كل ذلك، والذي لا يشارك في هذا
السيل الجارف من "التفاهة الثقافية" -أو "غير الثقافية"؟-،
والذي يحافظ على استقلاله وعلى صلته بالواقع، فإنه يُقصى من قبل هؤلاء
"المثقفين" أنفسهم، إذ هم لا يشعرون بانتمائه إليهم!
وثمة أيضًا بعضٌ من هؤلاء "المثقفين" الذين لا شغل إليهم سوى جمع
النساء من حولهم، و"التطبيل" لكل ما تنتجه أنثى، دون غربلة هذا الإنتاج
ونقده بشكل حقيقيٍّ، ليخرج على أفضل وجه، وبأبهى صورة، فقط لاجتذاب المزيد من
النساء! ولا ريب في أن هذا الصنف من المثقفين يُسهم في إغراق المجتمع، الثقافي
وغير الثقافي، في المزيد من التفاهة وعدم الأهمية، وفي الاستغلالية والانتهازية!
مجتمعنا
مليءٌ بالنساء والفتيات المبدعات اللواتي لا يحتجن أبدًا للمجاملات والمداهنات، بل
إلى النقد الجاد والحقيقيّ، الذي من شأنه أن يسهم في تطوير إنتاجهن الذي من شأنه
أن يقود إلى تقدم المجتمع بأسره، إذ إن المرأة هي نصف المجتمع.
ولعلنا،
في مقال آخر، سوف نفصل أكثر في الدور الحقيقي للمثقف. ولكننا، في هذا المقام، لا
يسعنا سوى الدعوة إلى الابتعاد عن التصادمية الغبية التي يمارسها الصنف الأول، وعن
المهادنة الخبيثة التي يمارسها الصنف الثاني، وعن الابتعاد عن الواقع الذي يعيشه
الصنف الثالث، وعن المجاملات والمشاحنات والتحاملات والتحزبات التي يمارسها بعض
المثقفين، بمختلف أصنافهم، بين بعضهم البعض!
على المثقف أن يكون ناقدًا مستقلًّا للسلطات المجتمعية والدينية والسياسية،
نعم، ولكن عليه أن ينتقي الأسلوب الذي يجعل نقده مُتقبّلًا ومؤثرًا. وعليه أن يكون
وثيق الصلة بالواقع لا عديمَها، وقريبًا من الناس وهمومهم وحيواتهم اليومية، وأن يشخّص
ما يعانيه المجتمع من أمراض، وأن يحاول الإسهام في تقديم العلاج لها. وحتمًا عليه
أن يبتعد عن تبرير عيوب المجتمع والدفاع عن أخطائه، بل عليه أن يبرزها وينتقدها، مُتحرّيًا
في ذلك الأسلوب الذي من شأنه أن يجعله مُتقبّلًا.
ولن يغيب عنا، مع ذلك، في هذا الموضع، دور المجتمع نفسه في قمع وإقصاء حرية
التعبير والنقد، وقد نشير إلى ذلك ونتناوله في موضع آخر بالتفصيل.
حسين كاظم
31/8/2024
تعليقات
إرسال تعليق