عبء الحرية الثقيل: هل الإنسان في أصله حرٌّ أم عبد؟
"إن الإنسان كائن وحيد؛ فهو يوجَد، ووجوده سابقٌ على جوهره.. ما من جوهر قبل أن يوجد الفرد! وإذا وُجِد، فعليه أن يكتشف نفسه، ومن ثم أن يجد ويبلور جوهره بنفسه، وهو مسؤول عن تكوين وتعريف نفسه بنفسه. فلا يُعرّف الإنسانَ أحدٌ سواه: لا أسرته، ولا بيئته، ولا دولته، ولا مذهبه، ولا دينه! بل هو مسؤول عن إيجاد وتعريف نفسه! وهو أيضًا الذي يطوّر معناه الخاص لحياته، ولا يفرض عليه معنى الحياة أحدٌ أو أيديولوجيا! فالإنسان حر!".
هذه هي خلاصة "وجودية سارتر"، كما
قرأتها وفهمتها، وهي التي سحرت شباب عصره في فرنسا خصوصًا، وفي الغرب والعالم
عمومًا.
مُرعبة إلى حد ما.. أليست كذلك؟
لكن على النقيض من سارتر، ووجوديته المثالية،
في رواية "الإخوة كارامازوف" لدوستويفسكي، ينتفض "كبير
المفتشين" في وجه السيد المسيح عندما يعود إلى الحياة في عصر محاكم التفتيش
في إسبانيا. ففي الرواية، يقبض كبير المفتشين على السيد المسيح، فيؤنبه أشد
التأنيب، وبأقسى الكلمات، ويُحاسبه على "عبء الحرية الثقيل" الذي
أثقل به كواهل بني الإنسان!
وليعذرنا القارئ هنا على نقل اقتباسات طويلة (ولكنها
ضرورية).
أول ما يقوله "المفتش الأكبر"
للسيد المسيح في الرواية هو: "أهذا أنت إذن؟ أهذا أنت؟ اسكت! لا تقل شيئاً!
وما عساك تقول لي؟ إنني أعرف سلفاً كل ما قد تقوله لي. وبأي حق تريد أن تضيف أي
شيء إلى ما سبق أن قلته؟ لماذا تجيء اليوم تزرع الاضطراب في حياتنا؟ ذلك أنك إنما
جئت لتعرقل عملنا، وأنت لا تجهل ذلك (..). سأحكم عليك بالإعدام وسآمر
بإحراقك مثلما آمر بإحراق أسوأ الزنادقة. إن ذلك الجمهور نفسه الذي كان يقبل قدميك
منذ بضع ساعات، سيهرع غداً، بإشارة بسيطة مني، فيرى لهيب النار، هل تعلم ذلك؟".
ومن ثم يخاطبه قائلا: "تريد أن تمضي إلى
الناس، وأنت تمضي إليهم خالي اليدين إلا من وعد بحرية لا يستطيعون بحكم ما
فطروا عليه من بساطة وحطة أن يفهموه، عدا أنهم بالإضافة إلى ذلك يخشونه ويخافون
منه، لأنه ليس هناك ولم يكن هناك في يوم من الأيام حالة لا يطيقها البشر والمجتمع
مثلما لا يطيقان الحرية".
وفي معرض تقريعه للسيد المسيح، مُتحدّثًا عن
عامة الناس، يقول المفتش الأكبر: "لن يهب لهم العلم خبزاً ما ظلوا
أحراراً، ولكنهم سينتهون إلى أن يرموا حريتهم على أقدامنا قائلين: (استعبدونا ولكن
أطعمونا). سيدركون هم أنفسهم أن الحرية لا تتفق وخبز الأرض، ولا تتيح أن يصيب كل منهم
من هذا الخبز كفايته، لأنهم لن يتوصلوا إلى اقتسامه بالعدل في يوم من الأيام.
وسيقتنعون كذلك باستحالة أن يكونوا أحراراً، لأنهم ضعاف فاسدون صغار النفوس سريعون
إلى التمرد والعصيان. لقد وعدتهم بخبز السماء، ولكنني أسألك مرة أخرى: هل يقاس
خبز السماء بخبز الأرض في نظر هؤلاء البشر الذين سيظلون إلى الأبد فاسدين عاقين؟".
ولكنّ أهم ما يقوله المفتش الأكبر في هذا
السياق، هو التالي: "فلا رغبة أقوى ولا هم أبقى لدى الإنسان الذي أصبح
حراً من هم العثور على سيد يعبده بأقصى سرعة. ولكن الإنسان يتطلع إلى الخضوع
لحقيقة مؤكدة لا تُجحد، حقيقة يحترمها جميع الناس برضى إجماعي. إن حاجة هذه
المخلوقات الضعيفة ليست إلى اكتشاف قوة يمكن أن يطيعها هذا الفرد أو ذاك من
الأفراد، وإنما إلى اكتشاف حقيقة عليا يمكن أن يؤمن بها الجميع، ويمكن أن ينحني
لها الناس كافة. فهذه الحاجة إلى الاشتراك في العبادة هي بعينها الهم الرئيسي الذي
يعذب كل فرد ويعذب الإنسانية جملة، منذ أقدم عهود التاريخ. فباسم هذا التطلع إلى
العبادة الجماعية المشتركة إنما أفنت الشعوب بعضها بعضاً خلال الأحقاب. كانت
الشعوب تصنع آلهة ثم تأخذ تتشاتم: (اتركوا آلهتكم وتعالوا اعبدوا الهتنا. وإلا فالموت
لكم ولآلهتكم)! وسيبقى الحال على هذا المنوال إلى نهاية العالم، وحتى بعد زوال
الآلهة سيظلون يسجدون لأصنام جديدة (..). أعود فأقول لك إنه لا قلق أرسخ في
قلب الإنسان من قلق الحاجة إلى العثور على من يستطيع أن يضحي له سريعاً بالحرية
التي وهبت له، هو المخلوق التعيس منذ ولد".
أطلنا في الاقتباسات من دوستويفسكي، ولكن..
يا رباه!
من على حق هنا: سارتر؟ أم دوستويفسكي ومخلوقه
"المفتش الأكبر"؟
هل الإنسان حرٌّ، ومسؤول عن تكوين جوهره
وتعريف نفسه، بحكم وجوده السابق على جوهره، كما تقول وجودية سارتر؟ أم هو عبدٌ
خَنوع، يبحث عن التخلص من حريته، وتكبيل نفسه بالقيود، وتسليم قياده إلى من يستطيع
أن يقوده ويُخضِعه؟
في هذا الخصوص، ربما نستطيع تصنيف الناس إلى
ثلاثة أقسام: قسمٌ يؤيد الحرية بمفهوم "وجودية سارتر"، الحرية التي تكفل
تحرره من كل ما من شأنه تقييده. وقسم يؤيد موقف المفتش الأكبر، الذي يرى بأن عليه
التسليم المطلق إلى قيادة معينة -دينيةً أو سياسيةً أو أيديولوجية، أو أيًّا كانت-.
وقسمٌ ثالث، في منطقة رمادية، يبتغي توازنا بين القسمين السابقين.
عندما علّقتُ على "الوجودية السارترية"
بكونها "مرعبة"، فقد عنيتُ ذلك بحق! وإلا فما الذي يعنيه أنك مسؤول عن
كل شيء يخص ذاتك؟ وهل هي واقعية أصلًا؟
بالنسبة لي، أعتقد أن وجودية سارتر، رغم
جاذبيتها الأخاذة وكونها مُرعبة في نفس الوقت، مُفرطة في مثاليتها، وبعيدةٌ عن
الواقع؛ فالإنسان، مهما ابتغى أن يتحرر، وأن يكوّن جوهره بنفسه، هو -في البداية
والنهاية- محكومٌ بالهويات التي تُشكل جوهره إلى حد كبير، والتي تمحضه إياها
أسرته، ومجتمعه، ودولته، ودينه، ومذهبه، وعرقيته، ولغته! فماذا لو شاء عربيٌّ
مثلًا أن يُعيد تكوين جوهره، بناءً على الفلسفة الوجودية، وتعلّم الألمانية، ومن
ثم تظاهر بأنه ألماني؟ هل سيأخذه الألمان على محمل الجد؟ وهل سيعترفون بألمانيته،
حتى وإن اكتسب الجنسية قانونيًّا؟ ألن ينظروا إليه، دائما وأبدًا، على أنه ذو أصل
عربي؟
وماذا لو تظاهر أسود بأنه أبيض؟ أو العكس؟ من
سيأخذ هذا التظاهر على محمل الجد؟
بل وإننا نرى -في عصرنا الحديث-
"المتحولين جنسيًّا" وهم يعانون عندما يدخلون دورات المياه؛ فإذا دخل
الرجل المتحول جنسيًّا -إلى امرأة- حمامَ النساء، فإن الكثير من النساء يفزعن،
ويحاولن طرده (أو طردها؟)، غير معترفات بأنه/ا "امرأة"! وإذا دخلت
الفتاةُ المتحولةُ جنسيًّا -إلى رجلٍ- حمامَ الرجال، فإن الرجال يسخرون منها (أو
منه؟)، غير معترفين، حتى ولو كان ذلك داخليًّا، بأنه/ا "رجل"!
مهما عرّف الإنسان نفسه كما شاء، وبحث عن
"جوهر جديد"، وتلبّسه، فإنه محكومٌ بهوياته "الأصلية"
المتعددة، وإنّ المحيطَ، في كثير من الأحيان، سيظل يعرّفه ويصنّفه بناءً على ما
يرى بأنه أصله، لا بالأردية الجديدة التي سيحاول ارتداءها كـ"هويّاتٍ
مُختارة"!
الإنسان حيوانٌ اجتماعي، ولا يعيش في فضاء منعزل
عن الآخرين. وكيفية رؤية الآخرين له، وتعاطيهم معه، تحدد إلى درجة كبيرة مدى
سعادته أو تعاسته. ولذلك، فإن الهروب من الهويات الأصلية (أو الجوهر الأصليّ) إلى
هويات مكتسبة (أو جوهر مكتسب) قد لا يكون ناجحًا في كل الأحيان، إن لم يوجد اعتراف
من المحيط. وهذا الاعتراف عصيٌّ على أن يوجد في معظم الأحيان.
مع ذلك، فإن لوجودية سارتر قدرةٌ هائلةٌ على
الإلهام؛ فهي تُلهم أولئك "الأحرار" الذين سئموا التصنيفات الجاهزة،
والتعريفات المعلبة التي تفرضها عليهم بيئاتهم، ومن ثم تقودهم -الوجودية- إلى
تكوين أنفسهم بأنفسهم، في شيء من التمرد على كل ما هو مفروض. ولعمري فإن ذلك يتطلب
قدرًا هائلًا من الإيمان بالذات، والثقة بالنفس، وبالقدرة على تحمل "عبء
الحرية الثقيل" الذي تنوء بحمله الجبال! ولذلك، فإن هؤلاء يعتنقون
الوجودية.
ولكن يوجد تحدٍّ يواجه الوجوديين، ألا وهو
تحدي الوعي بالهويات الأصلية التي ذكرنا بعضًا منها، والمحدوديات التي تفرضها
علينا كبشر اجتماعيين. فإذا وضع الوجودي هذه الهويات وما تفرضه علينا بعين
الاعتبار، وفهم بذلك "حدوده"، فإنه يستطيع الإفادة من الوجودية. ولكن إن
لم يعِ ويفهم كل ذلك، فإنه سوف يواجه صعوبات مع محيطه دون أدنى شك!
وأما القسم الثاني من الناس، وهم -في الواقع-
عامة الناس، وغالبيتهم العظمى، فإنهم، بوعي أو من دون وعي، لا يطيقون "عبء
الحرية الثقيل" أبدًا، وهم يفضّلون تسليم حرياتهم وعقولهم إلى من يقودهم،
ويفكر عنهم، ويأمرهم، على أن يستعملوا حرياتهم وعقولهم هم بأنفسهم؛ لاعتقادهم
العميق بأن هذا القائد -الذي ارتضوه قائدًا- هو أعلم وأصلح لأمور دنياهم (ودينهم
ربما) منهم! وبناءً على ذلك، فَلِمَ قد يضايق الفرد منهم نفسه بالتفكير والانفلات،
بينما يوجد من هو أعلم منه بمصلحته وما فيه خير له؟
وقد يكون ذلك القائد رجلَ دين، أو حاكمًا، أو
قائدًا حزبيًّا أو أيديولوجيًّا. ولكن، على أية حال، يراه أتباعه المخلصون أكثر
قدرةً وعلمًا وفهمًا منهم، ولذلك فما عليه إلا الأمر وما عليهم سوى الطاعة.
وهذا ما يقوله المفتش الأكبر، وخالقه
دوستويفسكي.
ومن المثير جدًّا قول هذا الأخير بأن البشر
يختلقون الآلهة والأصنام التي يسجدون ويخضعون لها، وأنه حتى بعد زوالها، سيختلقون
أصنامًا وآلهة جديدة ليخضعوا إليها!
وثمة مفارقة مثيرة للاهتمام هنا بين القسمين
الأول والثاني، إذ قد يقول أصحاب القسم الثاني من البشر عن أصحاب القسم الأول أنهم
"واهمون" لا أكثر؛ يتوهمون بأنهم أحرار، بينما هم لم يفعلوا في الواقع
سوى أنهم استبدلوا آلهتهم القديمة بآلهة جديدة -قد تكون هي الحرية- فسجدوا إليها!
أليس ذلك مثيرًا؟
وأما القسم الثالث من الناس، ونعني بهم أولئك
الذين يبحثون عن التوازن بين الحرية الوجودية والنزعة إلى الخضوع، فإني في الواقع
أجد نفسي حائرًا في توصيف حالتهم!
ولكن لعله ينطبق عليهم ما ينطبق على من
يفهمون محدوديات الحرية الوجودية، وبالتالي فلا يميلون إليها كل الميل، ولا يحيدون
عنها بشكل مطلق أيضا. بل هم ربما يعملون بـ"التبعيض"، فيعملون
"ببعض" ما جاءت به الوجودية، من محاولة اكتشاف الذات وتكوين جوهر متفرد
(قد لا يكون بالضرورة متضاربًا مع الجوهر الأصلي). ومن جانب آخر، فإنهم قد يشبعون
حاجتهم إلى العبودية لسلطة أعلى بين الفينة والأخرى، بعيدًا عن النزعة إلى التمرد.
مُجملًا، فإني أعتقد بأن الإنسان لا يمتلك من
الحرية إلا قدرًا محدودًا جدًّا. وهذا يتناقض -إلى حد ما- مع مفهوم الحرية عند
سارتر. وأميل إلى وجهة نظر دوستويفسكي القائلة بأن معظم الناس يميلون إلى العبودية
أكثر من ميلهم إلى الحرية. ولكن، مع ذلك، ثمة "أحرار" (مع التحفظ على ما
قد يُفهم من هذه الكلمة) يستلهمون من سارتر ومفهومه عن الحرية الكثير، فيحاولون أن
يعملوا بمقتضى حرياتهم، حتى وإن كانت محدودة، فيشكّلون جوهرهم بأنفسهم، ويحاولون
أن يجدوا معنىً لحياتهم بأنفسهم، وبمعزل عن المؤثرات الخارجية.
حسين كاظم
16 أكتوبر 2024م
تعليقات
إرسال تعليق