لئلّا نغرق في عالم من الكتب التافهة!


يُقال: في كل دقيقة يُنشر كتاب جديد في هذا العالم. يبدو ذلك مبشّرًا لوهلة، حتى ندرك أن الغالبية الساحقة من هذه الكتب لا تساوي حتى قيمة الورق الذي طُبِعَت عليه!

    ليس هذا قولًا يرمي للاستكبار، ولا يُقصَد منه الاستصغار والانتقاص لأيّ أحد، بل هو توصيفٌ لواقعٍ أضحى نشرُ الكتاب فيه أسهل من شرب الماء، وما عادت غالبية دور النّشر فيه معنيّةً بالانتقاء والحرص على جودة المحتوى ورصانته، بقدر ما هي معنيّةٌ بالمال الذي تمتصّه من الصّوبين: من الكتّاب من جانب، ومن القرّاء من جانب آخر (كما يقول إخوتنا المصريّون: زيّ المنشار، نازل واكل، وطالع واكل)!

    بفعل كل ذلك، أُثقِلَت رفوف المكتبات بـ"كتب تافهة" عديمة القيمة حتى تقيّأتها المكتبات، وضاع حضور "الكتب الجيّدة والعظيمة" حتى أمست كالشّموع في مدنٍ عمياء، لا يراها ولا يستنير بضيّها أحد!

    ولكن.. قد يسأل سائل: ما هي الكتب التافهة أصلًا؟ وما هو المعيار الذي تُصنّف على أساسه الكتب إلى "كتب جيدة" في مقابل "كتب تافهة"؟

·      ما هي "الكتب التافهة"؟

    في مقدّمتها لكتاب "نظام التفاهة" لآلان دونو، نجد المترجمة (مشاعل الهاجري) تنتقد "قوائم الكتب الأكثر مبيعًا"، وترى أنها "في الغالب أقلها قيماً فكرية". وتقول الهاجري: "بالنسبة لي الآن، صار مجرد وجود الكتاب على رف الكتب الأكثر مبيعاً هو دلالة مبدئية على ضحالته، إلى أن يثبت العكس"!

    وأما المؤلف نفسه (آلان دونو)، فهو يشنّ هجمته على "الكتابة الأكاديمية"، تلك التي تتصف بالنّخبوية والترفّع، والمغرقة في الغموض الذي لا يحمل في طيّاته سوى الخواء الفكريّ وانعدام القيمة، ويرميها بالتفاهة، بدلًا من أن ينتقد الكتب التجارية التي يكتبها الفارغون فكريًّا وثقافيًّا!

    بالنسبة لي، فأنا أشارك الهاجري ريبَتها من "الكتب الأكثر مبيعًا" دون أدنى شك. ولكن، والحق أقول: قد يجد المرء بين "قوائم الكتب الأكثر مبيعًا" كتبًا قيّمةً أحيانًا، مثل كتاب "سجناء الجغرافيا" لتيم مارشال، وكتاب "العاقل" ليوفال نوح هراري، وكتابات "روبرت غرين" و"دان براون"، رغم ما قد يكون لنا عليها من مآخذ.

    وأما بالنسبة لموقف آلان دونو الهجوميّ ضد الكتب الأكاديمية الغامضة، فأنا أشاركه نفوره الواضح من الكتب الشديدة الغموض أيضًا، وأفضّل الكتب الواضحة. ولكنّي لا أوافقه في هجومه على الكتب الأكاديمية بهذه الصورة الشرسة؛ ففي النهاية، تبقى الكتب الأكاديمية "أكاديمية"، ولها مصطلحاتها وظروف كتابتها الخاصّة. ولا أرى أن هجوم دونو على الكتب الأكاديمية (وتركه العديد من الكتب التافهة) أمر موفّق من جانبه!

    ويبقى السؤال: ما هي الكتب التافهة إذن؟

    ليس من السهل وضع تعريف محدد لـ"الكتب التافهة"؛ فقد يقول قائل: "ما تصنفه كتابًا تافهًا قد يكون كتابًا قيّمًا بالنسبة لغيرك.. والمسألة عائدةٌ إلى الأذواق. ولولا اختلاف الأذواق، لبارت السلع"!

    وهذه كلمات يرددها العديد من الناس بالفعل، وفي مختلف المحاضر والمناسبات. ولكنني أتجرأ على أن أقول: هذا كلام فارغ!

    نعم، تختلف الأذواق، ولكن الكتب التافهة موجودة، وغالبًا ما تُعرَف، ويميّزها أهل الثقافة والقرّاء المخضرمون. يستعصي تعريفُها بشكل محدد وحصريّ، نعم، ولكنّها تُعرَف وتُميّز!

    وإذا شئنا أن نضع تعريفًا للكتب التافهة، فربما يمكننا أن نعرّفها على أنّها "الكتب الخالية من كلّ قيمةٍ فكريّةٍ أو أدبية، والكتب المكتوبة لأغراض تجارية أو لغرض (الظهور) دون أساسٍ ثقافيٍّ ولا رصيدٍ معرفيّ، والكتب التي تفيض بالثرثرات الفارغة والخالية من المضمون الحقيقيّ -الذي قد يضيف شيئًا للقارئ-، والروايات والقصص المبتذلة التي يكتبها من لا علم ولا مهارة ولا موهبة لهم بفنون الرواية وعلوم السرد".

    هذا من وجهة نظري.

·      لماذا تنتشر الكتب التافهة في العالم العربي؟

    هذا عنوانٌ مُخادع؛ فالكتب التافهة لا تنتشر في العالم العربيّ وحسب، بل هي تنتشر في مُختلف أنحاء العالم. يعود ذلك إلى جملة من العوامل، من بين أهمّها "الثورة الرّقمية" التي يسّرَت الكتابة والنشر "لكلّ من هبّ ودبّ".

    ولكن.. إذا كان الأمر كذلك، فلِمَ نخصّ العالم العربيّ بالذّكر والنّقد؟

    جوابًا على ذلك، أقول: أوّلًا لأنّه عالمنا. وثانيًا لاعتقادي بأنّ الكتب الرديئة والتافهة تنتشر فيه أكثر ممّا تنتشر في غيره. ليست لديّ أرقامٌ ولا إحصائيّات لأثبتَ ذلك، وما أنا معنيٌّ بإثباته. وإنّما هي مجرّد ملاحظة قائمة على المتابعة والرّصدِ لما يُنشر من كتب في عالمنا العربيّ، وفي العالم ككل.

    في الدّول الغربية، على سبيل المثال، كي يتيسّر للمرء الوصولُ إلى دور النّشر المُعتبرة ونشر الكتاب عن طريقها، يحتاج الكاتب إلى "وكيل أدبيّ" (Literary Agent)؛ والوكيل الأدبي هو شخصيّة (أو جهة) تمثّل الكاتب قانونيًّا واحترافيًّا أمام دور النشر والجهات الإعلامية، وهو حلقة الوصل بين الكاتب ودور النّشر. ومن بين أبرز مهامّ الوكيل الأدبيّ: قراءة النصّ وتقييمه، وتقديم الاقتراحات لتحسينه وتطويره، وتقدير قابليّته للطّباعة والنّشر والتّسويق، ومن ثَمّ إرساله إلى دور النّشر باحترافيّة، والتّفاوض معها للحصول على أفضل عقد لنشر العمل، ومتابعة الالتزام ببنود العقد ودفع المستحقّات.. وما إلى ذلك.

    بسبب وجود "الوكالات الأدبيّة" هذه، تنخفض نسبة "الكتب التافهة" المنشورة في الدول الغربيّة مقارنةً بغيرها، وتقلّ فرص نشر "الكتب التافهة"، إلّا عن طريق دور النشر "الهامشيّة" التي لا تتعاطى مع الوكيل الأدبيّ.

    في المقابل، في عالمنا العربيّ، ليس ثمة قناة احترافيّةٌ بين الكاتب ودار النّشر، ويتمّ التّواصل مُباشرةً بينهما. كثيرٌ من دور النّشر أضحت تجاريّة، تقبل أيّ عملٍ ما دام الكاتب سيدفع ثمن طباعته، ولا تدقّق النّصّ لغويًّا، ولا تقترح شيئًا لتحسينه وتطويره. وهكذا، يُفتح الباب على مصراعيه "لكلّ من هبّ ودبّ" أن يكتب كتابًا ويطبعه وينشره.

    ومن جانب الكتّاب، فإن الكاتب الحقيقيّ يكتب عندما تراوده "فكرة"، وبعد أن يحضّر للكتابة في هذه الفكرة جيّدًا. والتحضير يكون، بشكل رئيسيّ، عن طريق القراءة والاطّلاع أكثر فيما يمكّنه من الكتابة والإبداع في تناول وطرح الفكرة. ولنطرح هنا مثالًا على مثقّف وكاتب حقيقيّ وعظيم، فلنأخذ "إدوارد سعيد" لمّا كتبَ "الاستشراق"؛ لا بدّ أن الفكرة قد راودته في البداية، ثمّ حضّر جيّدًا للكتابة فيها عن طريق القراءة (يُقدّر عدد المراجع والمصادر التي رجع إليها سعيد في كتابه هذا بأكثر من ثلاثمائة مصدر)، ثمّ كتب الكتاب ونشره، وثوّر به دراسات الاستشراق، حتى دأب المثقفون على قول أنّ "الاستشراق بعد إدوارد سعيد ليس كما كان قبله"!

    هكذا يفعل الكتّاب الحقيقيّون وأصحاب الأقلام الرّصينة. وأمّا الكتّاب الذين ينشرون ما سخف شأنه من الكتب، فهم غالبًا لا يكتبون ولا ينشرون لأنّ لديهم فكرة، بل رغبةً في الظّهور فقط، وفي اكتساب لقب "الكاتب". وإذا امتلكوا "فكرة"، فهم غالبًا لا يحضّرون للكتابة والإبداع فيما يمكّنهم من الكتابة فيها بشكل رصين، بل يكتبون ما هو أشبه بالخواطر والسّفاهات والسّخافات.

    ومن بين مُختلف أصناف الكتب، كثيرًا ما يختار أغلب الكتّاب المبتدئين كتابةَ الرّواية، مع أنّها من أصعب أنواع الأدب!

    عن نفسي، كان بالفعل أوّل كتاب أنشره "رواية" (قيامة الخفافيش)، ولكنّي عكفت على كتابة هذه الرواية ثلاثة أعوام متتالية (وإذا شملنا مدّة التحضير، عن طريق القراءة، فهي أربعة أعوام متتالية)، وسبقت هذه الروايةَ عشراتٌ من المقالات والمراجعات، ومحاولات في كتابة الرواية لم أتجرأ على نشر أيّ منها لتسعة أعوام، ولم أتجرأ على نشر روايتي إلّا بعد أن راجعها لي مرارًا وتكرارًا النّاقد البحرينيّ الكبير الأستاذ عبدالجبّار علي، وبعد أن سمعت رأي وملاحظات قامة كبرى في البحرين: الدكتور علي محمد فخرو. رغم ذلك، كان خيار النّشر صعبًا بالنسبة لي، ولبثت مترددًا حتى آخر لحظة!

    لا أنكر أنه ثمة العديد من الكتّاب الموهوبين في العالم العربي، سواءً في كتابة الرواية، أو القصص القصيرة، أو غيرها من أصناف الأدب والفكر. ولكن، وبسبب سهولة النّشر، وتجاريّة العديد من دور النشر في العالم العربي، ورغبة العديد من النّاس في الظّهور بصفتهم "كُتّابًا"، فإن الغالبية العظمى (أو فلنقل عددا كبيرًا) من الكتّاب الموهوبين يتعرّضون للظّلم، بطريقة أو بأخرى، خصوصًا عندما تضيع كتاباتهم وسط كومة من الكتب التافهة!

    وللتلخيص، فلنذكر النقاط التالية كأسباب لانتشار "الكتب التافهة" (على سبيل المثال لا الحصر):

1.    الثورة الرّقمية التي يسّرت الكتابة والنّشر "لكلّ من هبّ ودبّ".

2.    عدم خضوع معظم النّصوص والأعمال المنشورة للتدقيق والتقييم والتقويم (وعدم وجود "وكلاء أدبيّين" يمارسون هذه الوظيفة باحترافيّة).

3.    الطبيعة التّجاريّة للعديد من دور النّشر التي لا تكترث سوى بالرّبح الذي ستجنيه من الكتّاب والقرّاء على حدٍّ سواء -كالمنشار-.

4.    رغبة العديد من النّاس بالظّهور بصفتهم "كُتّابًا" دون فكر حقيقيّ، ولا تحضير، ولا رصيدٍ ولا تأسيس معرفيّ أو أدبيّ.

    ولنضِف سببًا آخر لا يقلّ أهميةً عمّا سبق من أسباب:

5.    شيوع "التفاهة" بين النّاس ورواجها، للأسف الشديد، بدلًا من إنكارها وإنزالها منزلها الذي تستحقّ!

 

·      ختام:

    ختامًا، لا يسعنا إلّا أن ندعو للإصلاح: فلترتقِ دور النّشر بنفسها عن النزعة التجاريّة، ولتخضع النّصوص التي تصلها للتدقيق والتقييم والتقويم قبل النّشر، وليؤسّس الكتّاب أنفسهم معرفيًّا وثقافيًّا وأدبيًّا قبل أن يخوضوا غمار الكتابة والنّشر، وليبتعدوا عن الرغبة في الظّهور على حساب "جودة الظّهور".. وأخيرًا وليس آخرًا: فلينكر النّاس "التفاهة" ولينزلوها منزلها الذي تستحقّ لئّلا تشيع "التفاهة" بين النّاس!

 

 

حسين كاظم

1 أغسطس 2025


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في نزع سلاح حزب الله: الأسباب والعواقب

مراجعة ونقد رواية "البكاؤون" للدكتور عقيل الموسوي

ترامب والحرب العالمية الثالثة المحتملة